تويت
شحاذ المقهى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سمير الفيل.
أعطيت الشحاذ جنيهين ، في كفه الممدودة ، فوضعهما بنفور على المنضدة ذات القاعدة الرخامية ، وقالت عيناه : هذا مبلغ لا ينفعني في شيء .
كان محقا في اعتراضه، غير أنني أيضا محق في تقديري للأمور، فما تبقى معي من مال قليل ، لا يشتري لي وجبة ساخنة ، كما أن المطر لم ينزل اليوم رغم أننا في فصل الشتاء ، ولم تمر علىّ صفاء في المقهي الذي تعرفه ، والواجهات كانت مغسولة بالضوء ، وفتيات صغيرات يسرن أمامي ، كل منهن تضع الموبايل على أذنها وتتكلم بلا توقف ، رأيت في عيونهن حبورا لا حد له.
قط المقهى تمسح في بنطلوني ، فزعت للحظة ثم ركلته بلطف فعاود التمسح الودود ، في المحمصة المجاورة لنا تقف نسوة ثرثارات ورجال صفتهم البدانة ، ومعتوه جديد يلبس بدلة سابغة كأنها لأبيه، وبنطلون بلون أصفر زاعق أما قدماه فيحضنهما شرابان بقلم أخضر عريض يشبه جوارب اللاعبين في الدوري الممتاز لكرة القدم .
غادرتني صفاء سنة ثم عادت بعد فشل زواجها ، قالت أنها ستكتفي بصداقة محسوبة : كلمات دافئة ، وهدايا بسيطة ، وابتسامات عندما نتقابل. لا شيء غير هذا.
أخبرتها أنني بحاجة لامرأة من أي طبقة ، أو وضعية اجتماعية ، لا تثرثر كثيرا ، كي أضع رأسي على صدرها، ولا أفعل شيئا غير هذا.
بعد برهة ضحكت: كان زمان ،وجبر.
فشعرت ان الوجود وضعنا في مازق وعلينا ان نتصرف بمعرفتنا ؛ فلا أحد سيجيب عن أسئلتنا .
ياه، أعود لعبدالرحمن بدوي وحديثه عن " الزمان الوجودي " فبالعقل والعاطفة والإرادة والتجربة الحية يمكن فهم حقيقة وجودنا.
لكن الأسطى مصطفى الفيل الذي غادر عالمنا في أغسطس 1952 لم يخبر واحد من ابنائه عن سبب غيابه المبكر رغم صغر سنه حين واجه الموت وحده . كان على السرير يود لو ذهب للحمام فلم يقدر وسمع من بالحجرة المجاورة الحشرجة ثم الصمت التام. فهل يعني ذلك العدم ؟
. يقول الشيوخ أنه في الحفرة ، يقول متصوفون أنه في السماء ويقول صديق لي يقود " تاكسي " لونه أبيض ، ولحيته شديدة السواد : الموتى يقفون على الصراط.
أعود لبدوي فأدرك معه أن الوجدان هو أقدر ملكات الإدراك في فهم الوجود الحي.
قالت لي شجرة خلت من العصافير : الحب خدعة ، يقصد به التخفيف عن عبثية الحياة.
قالت حبيبتي القديمة التي تعكف على تعليم ابنها المعاق طريقة نطق الحروف الأبجدية : الحب يضعنا في منفى اختياري. لا أحب أحد غير طفلي.
عممت تجربة المطر على نفسي فوجدت الرياح والأمطار والصواعق والرعد والبرق كائنات خرافية تأتي من السماء كإشارات عبقرية للبشر كي يمضوا في سيرهم المحتوم.
تأملت نيرة، وهي زوجة صديقي الطيار الذي رفت من الخدمة لاختلاسه مائة طلقة من ذخيرة القاعدة العسكرية. اخبرني في آخر جلسة بيننا : لا نبي يؤمن به أهل بلده. سأسافر خارج البلد. لن اعود إلا وأنا مليونير .
كان ممشوق القامة ، ليس في جسده ترهلات وكانت مشيته العسكرية تميزه: ضاجعت خمسين امرأة ونسيتهن جميعا. الجنس أصل الحياة.
لكنه في آخر لقاء بيننا بكى ، لأنه وجد في حقيبة زوجته ـ وكانت تستحم كعادتها كل يوم ـ قصاصة من شخص يدعى " منير" ، يقول لها إنه يحبها وسينالها؟!
ومانيل المطالب بالتمني .. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا.
الكلاب تمشي ببطء أمام المقهى ، لا يوجد كلب بمفرده بل جماعات تسير في حذر ، وهي تنبح بلا سبب .
قلت للشحاذ وأنا أضع الجنيهين في جيب سترتي : لا نقود لك عندي.
لم ينتظر حتى تنتهي جملتي بل مد يده ، وأمسك بكوب الماء وسكبه فوق رأسه ليفوق.
قلت لنفسي ، وأنا اراقب النمل يسير ببطء وبنظام عجيب : ماذا لو أننا خلقنا نملا؟ من كان سيحمينا لو داست الأقدام السائرة علينا فسحقتنا؟ هنا تذكرت قصة سيدنا سليمان وسماعه لغة النمل.
وقف غراب فوق مبنى " عمر أفندي " ونعق بتخاذل، قلت والدموع تتسرب إلى مقلتي: أنا مرهق جدا، لليوم الثالث يجفوني النوم هل لهذا علاقة بأن المطر لم يهطل ، وأنني أحب تلك المرأة البعيدة ، وأنني شغوف بالقلوب الحمراء الصغيرة التي لم تعد ترسلها لي في الفضاء الأزرق ، وأن عبدالرحمن بدوي مات بباريس ، وشحنت جثته حيث دفن ببلده. كلها أمور متشابكة والشحاذ مضى لحال سبيله وترك الجنيهين لأن الغلاء طال كل المهن ، ومنها الشحاذة.
لله يا محسنين!
6/ 12/ 2022.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سمير الفيل.
أعطيت الشحاذ جنيهين ، في كفه الممدودة ، فوضعهما بنفور على المنضدة ذات القاعدة الرخامية ، وقالت عيناه : هذا مبلغ لا ينفعني في شيء .
كان محقا في اعتراضه، غير أنني أيضا محق في تقديري للأمور، فما تبقى معي من مال قليل ، لا يشتري لي وجبة ساخنة ، كما أن المطر لم ينزل اليوم رغم أننا في فصل الشتاء ، ولم تمر علىّ صفاء في المقهي الذي تعرفه ، والواجهات كانت مغسولة بالضوء ، وفتيات صغيرات يسرن أمامي ، كل منهن تضع الموبايل على أذنها وتتكلم بلا توقف ، رأيت في عيونهن حبورا لا حد له.
قط المقهى تمسح في بنطلوني ، فزعت للحظة ثم ركلته بلطف فعاود التمسح الودود ، في المحمصة المجاورة لنا تقف نسوة ثرثارات ورجال صفتهم البدانة ، ومعتوه جديد يلبس بدلة سابغة كأنها لأبيه، وبنطلون بلون أصفر زاعق أما قدماه فيحضنهما شرابان بقلم أخضر عريض يشبه جوارب اللاعبين في الدوري الممتاز لكرة القدم .
غادرتني صفاء سنة ثم عادت بعد فشل زواجها ، قالت أنها ستكتفي بصداقة محسوبة : كلمات دافئة ، وهدايا بسيطة ، وابتسامات عندما نتقابل. لا شيء غير هذا.
أخبرتها أنني بحاجة لامرأة من أي طبقة ، أو وضعية اجتماعية ، لا تثرثر كثيرا ، كي أضع رأسي على صدرها، ولا أفعل شيئا غير هذا.
بعد برهة ضحكت: كان زمان ،وجبر.
فشعرت ان الوجود وضعنا في مازق وعلينا ان نتصرف بمعرفتنا ؛ فلا أحد سيجيب عن أسئلتنا .
ياه، أعود لعبدالرحمن بدوي وحديثه عن " الزمان الوجودي " فبالعقل والعاطفة والإرادة والتجربة الحية يمكن فهم حقيقة وجودنا.
لكن الأسطى مصطفى الفيل الذي غادر عالمنا في أغسطس 1952 لم يخبر واحد من ابنائه عن سبب غيابه المبكر رغم صغر سنه حين واجه الموت وحده . كان على السرير يود لو ذهب للحمام فلم يقدر وسمع من بالحجرة المجاورة الحشرجة ثم الصمت التام. فهل يعني ذلك العدم ؟
. يقول الشيوخ أنه في الحفرة ، يقول متصوفون أنه في السماء ويقول صديق لي يقود " تاكسي " لونه أبيض ، ولحيته شديدة السواد : الموتى يقفون على الصراط.
أعود لبدوي فأدرك معه أن الوجدان هو أقدر ملكات الإدراك في فهم الوجود الحي.
قالت لي شجرة خلت من العصافير : الحب خدعة ، يقصد به التخفيف عن عبثية الحياة.
قالت حبيبتي القديمة التي تعكف على تعليم ابنها المعاق طريقة نطق الحروف الأبجدية : الحب يضعنا في منفى اختياري. لا أحب أحد غير طفلي.
عممت تجربة المطر على نفسي فوجدت الرياح والأمطار والصواعق والرعد والبرق كائنات خرافية تأتي من السماء كإشارات عبقرية للبشر كي يمضوا في سيرهم المحتوم.
تأملت نيرة، وهي زوجة صديقي الطيار الذي رفت من الخدمة لاختلاسه مائة طلقة من ذخيرة القاعدة العسكرية. اخبرني في آخر جلسة بيننا : لا نبي يؤمن به أهل بلده. سأسافر خارج البلد. لن اعود إلا وأنا مليونير .
كان ممشوق القامة ، ليس في جسده ترهلات وكانت مشيته العسكرية تميزه: ضاجعت خمسين امرأة ونسيتهن جميعا. الجنس أصل الحياة.
لكنه في آخر لقاء بيننا بكى ، لأنه وجد في حقيبة زوجته ـ وكانت تستحم كعادتها كل يوم ـ قصاصة من شخص يدعى " منير" ، يقول لها إنه يحبها وسينالها؟!
ومانيل المطالب بالتمني .. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا.
الكلاب تمشي ببطء أمام المقهى ، لا يوجد كلب بمفرده بل جماعات تسير في حذر ، وهي تنبح بلا سبب .
قلت للشحاذ وأنا أضع الجنيهين في جيب سترتي : لا نقود لك عندي.
لم ينتظر حتى تنتهي جملتي بل مد يده ، وأمسك بكوب الماء وسكبه فوق رأسه ليفوق.
قلت لنفسي ، وأنا اراقب النمل يسير ببطء وبنظام عجيب : ماذا لو أننا خلقنا نملا؟ من كان سيحمينا لو داست الأقدام السائرة علينا فسحقتنا؟ هنا تذكرت قصة سيدنا سليمان وسماعه لغة النمل.
وقف غراب فوق مبنى " عمر أفندي " ونعق بتخاذل، قلت والدموع تتسرب إلى مقلتي: أنا مرهق جدا، لليوم الثالث يجفوني النوم هل لهذا علاقة بأن المطر لم يهطل ، وأنني أحب تلك المرأة البعيدة ، وأنني شغوف بالقلوب الحمراء الصغيرة التي لم تعد ترسلها لي في الفضاء الأزرق ، وأن عبدالرحمن بدوي مات بباريس ، وشحنت جثته حيث دفن ببلده. كلها أمور متشابكة والشحاذ مضى لحال سبيله وترك الجنيهين لأن الغلاء طال كل المهن ، ومنها الشحاذة.
لله يا محسنين!
6/ 12/ 2022.