يُعد ستيفان زفايغ Stefan Zweig(1881_1942) من الروائيين الذين يتعمقون داخل النفس البشرية ويصفون أحوالها، فيتعمق زفايغ هنا في نفس فتاةٍ مراهقة في الثالثة عشرة من عمرها تقع في حب جارها الجديد الكاتب المشهور الذي لم يميزها قط ولم يعرفها قط مع لقاءاتهم العديدة العابرة والمُطوّلة، أما هي لم تفعل شيئًا في حياتها سوى حبه فقد تمحورت حياتها حوله بما يبعث على الاستفزاز وبما قد يدفع لشتمها نتيجة تصرفاتها وتبريراتها لتلك التصرفات.
تبدأ القصة باستقبال الكاتب الشهير رسائل للتهنئة بعيد ميلاده يُقلّبها بين يديه بفتورٍ إلى أن يجد بين تلك الرسائل مظروفًا سميكًا يلفت انتباهه فيجده يحتوي على رسالةٍ مطوّلة أقرب إلى المخطوط ولكن بلا اسم للمرسل ولا توقيعه، ويُفاجأ بالاستهلال "ابني مات أمس" ما جعله يستكمل القراءة ويعرف ونعرف معه قصة ذلك الطفل ونعرف أن المرسلة امرأةٌ فقدت ابنها بوباء الإنفلونزا الذي كان سائدًا وقاتلًا قُبيل عام 1922.
تسرد تلك المرأة قصة عشر سنواتٍ من حياتها منذ الطفولة حين جاء الساكن الجديد إلى الشقة المجاورة لشقتهم حيث تعيش مع والدتها وتفتقد وجود الأب في حياتها، قد يكون انعدام وجود الأب في حياتها جعلها تتعلق بذلك الجار الجديد ومقتنياته من كتبٍ وتحف رأتها في أثناء نقل مقتنياته إلى الشقة قبل أن ترى صاحبها، فزاد ذلك من فضولها لمعرفة من يكون ذلك الجار الجديد، وتحوّل ذلك الفضول إلى هَوَسٍ بعدما رأته فظلّت تراقبه طويلًا، وتتفوّق في دراستها من أجله، وتتعلم البيانو من أجله، وهو لا يعرفها ولم يرها قط.
تبوح تلك المجهولة بسرها الذي احتفظت به لسنواتٍ طويلة لكنها تحتفظ بسر اسمها لنفسها فهي لا تريد أن يعرف اسمها، هي فقط كانت تريد أن يعرفها بشخصها أن يتذكرها بين كل النساء اللاتي كان يعرفهن ولكن ذلك لم يحدث أبدًا طولَ السنوات التي كانوا فيها جيرانًا ولا السنوات التي تلتها. إذ التقت به مرتين بعد انتقالها إلى منزلٍ آخر بسبب زواج أمها من أحد أقربائها.
على الجانب الآخر نجد أن ذلك الكاتب شخصٌ مُستهتر لا يهتم سوى باللحظة التي يعيشها ولا يهمه توابعها ولا يتذكرها أبدًا، فحين كانت الفتاة تراقبه من منزلها ترى معه كثيرًا من النساء ولكن لسذاجتها كانت تعتقد أنهن صديقاته فقط، فكان لا يسوءها ما ترى ولا ينبهها إلى أن تلتفت إلى نفسها وحياتها بل على العكس كانت تراقبه بسعادةٍ ونذرت حياتها له بسعادةٍ دون أن تنتبه للشقاء المختبئ في تلك السعادة الوهمية التي اصطنعتها لنفسها، فأغلقت حياتها على ذلك الجار وحسب، ولم تعطِ أيةَ فرصةٍ لأي شخصٍ يحاول التقرب منها وفاءً لحبها الوهمي، ولم تستطع أن تكوّن صداقاتٍ مع من هم في عُمرها نفسه.
قد يجد القارئ نفسه متعاطفًا مع البطلة تارة، وتارة أخرى يشعر بالحنق منها ومن تصرفاتها التي أضاعت حياتها، وقد يشعر بالتيار البارد نفسه الذي شعر به البطل عندما يُفاجأ في نهاية الرواية بالمشهد الختامي لها، فقد يكون ذلك اليوم هو أسوأ عيد ميلادٍ مرَّ في حياة البطل، لكنه عندما حاول أن يتذكرها بعدما انتهى من قراءة الرسالة لم يتذكر سوى خيالاتٍ ضبابية عنها، فقد فشلت تلك المرأة في محاولاتها جميعها لجعله يتذكرها ويعرفها وأصبحت طيّ النسيان هي وابنها.
تحوّلت تلك الرواية إلى فيلمٍ عام (1962) من بطولة فريد الأطرش ولبنى عبد العزيز مع بعض التعديلات في القصة ما جعلها تبدو أخفّ وطأةً على نفس المشاهد، فالفيلم لا يحمل القدر نفسه من الأسى والبؤس الذي تحمله الرواية.
المصدر:syr-res