هجرات أليمة إلى الداخل»

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • هجرات أليمة إلى الداخل»

    منذ ربع قرن، اعتاد الحاج «س» من قرية «ص» القريبة من شاطئ البحر أن يظهر في العيادة الخارجية للأمراض النفسية بالمصح الحكومي، مصطحبًا ابنه الشاب الذي تداهمه نوبات هياج هوسي سنوي في منتصف الصيف، وكان الأب من الأشخاص المُحبَّبين لدى الطبيب، فقد كان الرجل يتقبل «جنون» ابنه بأريحية أبوية عميقة وتعاطف متماسك، ودون تأفف معتاد من مصاحبي المرْضى حاملي اضطراب ابنه الذي يعتبرونه وصمة وفضيحة.

    كان الأب متسمًا بتسامح جميل مع مصابه، وكان يأتي بصورة بهية في جلبابه الفلاحي الأبيض السكري ولاسته الحريرية ونعله الفلاحي كريمي اللون. كان رجلًا تُسبغ عليه النعمة الريفية ملامحها، فقد كان يمتلك عدة فدادين مزروعة بالنخيل في الأرض القريبة من البحر والمناسبة تمامًا لزراعة نخيل بلح السماني الأصفر والزغلول الأحمر الفاخرين، وفي المساحات الخالية بين جذوع أكثر من مائة نخلة يمتلكها كان يزرع الخضراوات، فلفل، نعناع، طماطم، خيار، وعند الأطراف كان يزرع البطيخ الفاخر الذي تجود به هذه الأرض ذات الطبيعة الخلابة المطلة على زرقة البحر والمغمورة بنسائمه.

    لكن ما بال ذلك الرغد والجمال الطبيعي لم يعد يمنح الرجل سمات روحه العالية ومظهره الجميل؟! فالرجل لم يَعُدْ باسمًا وضاءَ المُحيَّا كما كان، والأكثر إيلامًا أن هيئته كلها تغيرت، وجهه الريان المتورد انطفأ في رمادية منكمشة، والملامح الراضية سحبها الاكتئاب إلى هُمود، ثم إن ثيابه التي كانت أنيقة بالغة النظافة صارت بائسة ورثة، ماذا حدث، ومتى حدث ذلك كله؟

    تجيب ابنته الشابة التي أتت بصحبته إلى العيادة النفسية، إن ذلك التدهور حدث بتسارع في السنوات القليلة الأخيرة، وبمواكبة ما حصل لأرضه، أرض النخيل والخضرة التي «ماتت» على حد تعبير الابنة. كيف ماتت الأرض؟ «زحف تحتها البحر» تقول، ويفهم الطبيب معنى ذلك مما قرأه في الفترة الأخيرة عن هذه الظاهرة المرتبطة بارتفاع منسوب مياه البحر. ارتفع المنسوب عدة سنتيمترات لا أكثر، لم تكن تكفي لغمر الأرض بالمياه المالحة، لكنها تسرَّبت إلى المياه الجوفية تحت هذه الأرض. زادت ملوحة هذه المياه بأكثر مما يحتمله النخل، فبدأ محصوله يتراجع وتقل جودته، ثم عَقُم، وسرعان ما مات النخل بتغريق الماء المالح لجذوره التي اختنقت وتحلَّلت.

    كان الرجل تختنق نفسه بمواكبة ذلك، وخاصة أن ابنه كان يتحول من نوبات الهياج الهوسي الصيفي إلى فصام تخشُّبي يجعله تمثالًا من الشمع شبه ميت. مات النخل واقفًا ولحقه الابن بالموات في الحياة، فاكتأبت نفس الرجل. ثم جاء العوز الذي حتم بيع الأرض لمن حولوها إلى مزارع سمكية فأخذ الرجل أسرته وهاجر إلى المدينة، فتح دكانًا لبيع الخضار والفاكهة، ووجد نفسه يدخل في صراعات لم يألفها مع أصحاب دكاكين قديمة مماثلة وقريبة من دكانه.

    صار غريبًا في زحام متفاقم ومشحون بالتكالب على كل شيء، والتنازع في كل خطوة. وبدأ نزوحه النفسي إلى الداخل، صار حزنه ثقيلًا يتطابق مع ثقل مصطلح «الحزن البيئي»، ومن ثقل الحزن تولَّد الاكتئاب الأقصى، اكتئاب الشيخوخة المُعانِد لمضادات الاكتئاب الشائعة، ومتى صار اكتئابه يتجلَّى؟

    في عز الصيف. صيف التغيرات المناخية الأليمة التي تدفع بضحاياها إلى هجرات مزدوجة أثقل إيلامًا، هجرات داخل الحدود، أو خارجها، وهجرات ــ في الحالتين ــ داخل كهوف النفوس الخانقة والمختنقة، والتي ينبعث منها أنين واهن الصوت برغم هول تحذيراته: البشرية في خطر، خطر زاحف لكنه أكيد، خطر جديد، خطرٌ وجودي، عميق وشامل، فهل نستعد للمواجهة؟

    د. محمد المخزنجي
    من مقال «كرب تغير المناخ… هجرات أليمة إلى الداخل»
يعمل...
X