"البطل المتكتم" درس روائي في تداخل الغرائبي والبوليسي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "البطل المتكتم" درس روائي في تداخل الغرائبي والبوليسي

    "البطل المتكتم" درس روائي في تداخل الغرائبي والبوليسي


    ماريو فارغاس يوسا يجعل من الشخصيات مفتاح ترتيب أوراق السرد.
    الأربعاء 2025/07/02
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    الحبكة هي الشخصيات (لوحة للفنانة زينة مصطفى)

    من المهم اليوم استعادة تجارب الأدباء الكبار ومهندسي الرواية المعاصرة، لتبين أبرز الأساليب السردية، وهنا يحضر ماريو فارغاس بوسا وطريقته الساحرة في بناء الأحداث اعتمادا على الشخصيات، وهو ما يمثله بشكل أساسي في واحدة من أبرز رواياته الأخيرة "البطل المتكتم" التي نستعيد تفاصيل بنائها.

    تتشابك في حركة الروايات النهرية خطوط السرد وتتضايف في ملعبها حبكات متعددة، كما تنتهي الحدود الفاصلة بين الشخصيات بنوعيها الرئيسي والثانوي ولا يمكن رصد أدوارها حسب القواعد التي تصنف الشخصية الروائية إلى المدورة والسطحية، لأن مبدأ التكافؤ في إنشاء الخطاب الروائي يستدعي وجود موتيف غالبا ما يكون قوامه الشخصيات التي تستعاد في سياق الرواية.

    ومن المعلوم أن تماسك النص السردي وقف على تشكيلة الشخصيات يقول سادو نبريتشيت “ليس هناك شيء يسمى حبكة هناك شخصيات تخلق الحبكة لمساعدتها في التنفس.” زيادة على كلام سادو يصح القول إن الشخصية هي ضابط الإيقاع للبيئة الروائية. لذلك فإن المحك في بناء العمل الإبداعي هو إدارة الشخصيات وإضاءة الممرات التي تتوافد منها لتندمج بالأثير الروائي.

    لا شك أن الروايات المسكونة بالنفس الملحمي مكتظة بالشخصيات والحكايات الفرعية وينحو فيها السرد بنية متوازية إذ تتبدل الأمكنة وتتناوب الأصوات على الجغرافية التي تمتد عليها الرشقات السردية. يغني الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا عالم روايته “البطل المتكتم” بنظام شبكي لا يتطور فيه الحدث حسب منطق تصاعدي، بل تتداخل المرويات في حبل السرد الذي يشد الأحداث نحو ثلاثة مساقات محورية.

    يضفي الكاتب نبرة بوليسية إلى حركة الاستهلال فيعلن الراوي المراقب بأن فيليثتو ياناكيه بعد أن يرتب نفسه ويمارس الرياضة يوميا يتخذ طريقه نحو مبنى شركة ناريهوالا للنقل هذا ما يشكل نبرته اليومية. لكن يحدث ما يغير روتينه الحياتي، الأمر الذي يعقد عليه إيقاع الأشواط السردية.

    وبالطبع إن تقديم العقدة في بداية الرواية يكسر الجليد بين المتلقي والنص، وما يفتتح به يوسا أجواء روايته يحسب له ويعد ضربة معلم، لأنه يبذر حدثا انفجاريا تتغلغل مفاعيله في مفاصل العمل. قد تغمر الأمواج السردية بعض الشخصيات والأحداث الفنية في مساق الرواية غير أن ما لا يغيب عن الذهن هو مضمون المغلف الذي صادفه صاحب شركة النقل ياناكيه معلقا على بوابة بيته القديم. بدلا من التوقيع يوجد رسم العنكبوت في أسفل الرسالة. تخاطب الرسالة ياناكيه مطالبة بدفع الإتاوة شهريا مع التذكير بضرورة الحفاظ على السرية والتكتم.
    مفاتيح السرد



    استعادة تجارب الأدباء الكبار ومهندسي الرواية المعاصرة


    الحدث الأول في بناء الرواية له طبيعة مغناطيسية تسحب المزيد من الأحداث والشخصيات المشاركة في البيئة السردية. ومن المنطقي أن يتبع ما بدل الروتين اليومي لدى ياناكيه زخما من الحركات الكاشفة لأصوات جديدة، بدءا من السكرتيرة خوسيفيتا مرورا بالنقيب المتواجد في مفوضية الشرطة، غير أن الأكثر لفتا للانتباه ليست إلا آديلايدا التي يسميها ياناكيه بالتقية.

    ويدرج الراوي معلومات عن بداية اللقاء بين صاحب الشركة وآديلايدا فقد رآها لأول مرة عندما كان يقود شاحنة محملة ببالات القطن نحو مدينة تروخييو. نصحته التقية بأن يكون حذرا في الطريق. فعلا ينجو السائق بأعجوبة من حادث الاصطدام بشاحنة أخرى عند منعطف الطريق، ومنذ تلك اللحظة يثق ياناكيه بنبوءات ونصائح التقية، وما إنْ يمر بأزمة حتى يعود إليها. غير أنه لا يرضخ لنصيحتها بدفع الإتاوة شهريا مستنكرا أهذا ما يقوله الوحي يا آديلايدا؟

    ضمن هذه الحزمة السردية يدس المؤلف نتفا توضيحية عن طفولة فيليثيتو ياناكيه البائسة، وهو لم ينتعل حذاء ومشى حافيا في مسقط رأسه ياباتيرا كذلك في تشولوكاناس حيث درس الابتدائية. ولكن أصبح مالك شركة النقل وهو في الخامسة والخمسين من عمره في مدينة بيورا. ولم يرث من والده غير وصية “لا تسمح لأحدٍ بأنْ يذلك يا بني.”

    ومن الواضح أن الحدث متضافر مع حركة السرد الكاشفة لجملة من الشخصيات، هذا ناهيك عن تحديد الخلفية المكانية والعقدة التي تضع شخصية ياناكيه أمام العدسة. وستترشح من وحدات لاحقة معطيات تفيد لنمو النواة التي تقوم عليها هيكلية الرواية. وما ورد في هذا الفصل ليس إلا خرزة أولى في قماشة السرد. مفتاح ترتيب أوراق السرد وحلقات المادة المروية ليسا إلا الشخصيات التي تتسع معها شبكة الأحداث.

    من المعلوم أن الكاتب لا يقدم المعلومات دفعة واحدة، بل يدير دفة السرد بنسق متناوب. بعد أن كشف بيانات عن الشخصية الأولى ياناكيه ينتقل فارغاس يوسا إلى ملعب شخصية إسماعيل كاريرا، صاحب شركة التأمين، ولا تختلف طريقة التعريف بكاريرا عن الآلية التي اتبعها مؤلف “حفلة التيس” للانفتاح على عالم شخصية فيلثيتو ياناكيه، إذ تتابع العدسة شخصيتين وتتبين خيوط العقدة مع مضي السرد وتبادل الكلام بين الطرفين. إذ يبوح إسماعيل لسكرتيره بأنه يريد الزواج بالخادمة آرميدا موضحا الدافع لهذا القرار الذي يصدم به ريغوبيرتو وهو يعتبر ما يعزم عليه صاحب شركة التأمين جنونا أو أعراضا للخرف.

    غير أن ما يهدف إليه إسماعيل من هذا المشروع وهو في الهزيع الأخير من العمر لا يعدو أكثر من قلب الطاولة على ابنيه ميكي واسكوبيتا. فيما كان الأب يصارع الموت في المستشفى وصل إلى مسمعه ما يقوله الاثنان، فقد تأكد لديهما أن الراقد في العناية المركزة يفارق الحياة، وما إن تحين هذه اللحظة حتى تبدأ رحلة البحث عن الممتلكات المسجلة باسم الميت. لكن عقارب القدر خالفت توقعات ميكي وشقيقه.

    أكد إسماعيل بأنه قاوم في برزخه للعودة إلى الحياة حتى ينسف أحلام ابنيه. تتوارد في هذه الحزمة السردية أخبار عن عربدة ميكي واسكوبيتا وسوابق الاثنين في الاستهتار والأخلاقيات المشينة. كما تطال أضواء العدسة شخصية الأم كلوتيدي التي ترحل بعد معاناة مع المرض، ولم يواسها في أيامها الأخيرة غير تفاني الزوج. ما يذكر لاحقا عن شخصية إسماعيل لا يخرج عن هذه الحلقة، فبعد عودته من الرحلة السياحية برفقة آرميدا لا يمضي كثير من الوقت حتى ينتهي يومه، وبذلك ينسحب تاركا المسرح للصراع بين أرملته وابنيه على تركته المالية.

    الحدث الأول في بناء الرواية له طبيعة مغناطيسية تسحب المزيد من الأحداث والشخصيات المشاركة في البيئة السردية

    ما يضاعف النفس الدرامي ويشحن النص بالإثارة والتشويق الدرامي والغموض الإجرامي هو تشعب قصة فيليثينو ياناكيه وما يتداعى عقب الرسالة التي تصله، والتقلب في نمط حياة هذا الشخص العصامي. فيبدو مع الانتقالات في آلة السرد أن شخصيته مركبة وليست أحادية الجانب فكان الشك ينهش صاحب شركة النقل حول حقيقة أبوته لابنه “ميغل”، ولم يكن مصدر الريبة فقط الاختلاف في الشكل والملامح، بل ما زاد لديه حدة الشك أن نُزل شجرة الخروب كان يقضي فيه سائقو الشاحنات مأربهم الجسدي، لذلك ليس من المستبعد أن صاحبة النزل قد استغلت وجوده لإنقاذ ابنتها خيرتروديس من عبء وليد مجهول الأب.

    تتنافذ هذه القصة مع الحدث الاستهلالي، وتشارك شخصية مابيل وهي عشيقة لياناكيه في إضفاء الطابع البوليسي إلى الأجواء، إذ تظهر متابعات الشرطة بأن “ميغل” الذي لم يرتح له صاحب شركة النقل قد تورط مع عشيقة من ينسب إليه بالبنوة في العلاقات الغرامية، وهو مرسل المغلف المذيل برسم العنكبوت مطالبا بدفع الإتاوة شهريا.

    ما تجدر الإشارة إليه هنا أن جينات هذه القصة دفينة في المقاطع الأولى من الرواية وما ينبسط على الرقعة السردية ليس إلا امتدادا للنواة، وذلك ما يحافظ على تماسك النص ومنطقه الفني. على الرغم من أن دون ريغو بيرتو يبدو ظلا لشخصية إسماعيل أو مكملا للأخير، بيد أن قصته مع ابنه فوننشيتو الذي يدعي وجود قرين يصاحبه تغلف النص بغرائبية شفيفة.

    لا تنفصل الشخصية والأحداث في سلاسل العمل الروائي عن الزمن والمكان فالأمر لا يتطلب كثيرا من العناء لمعرفة بأن رواية “البطل المتكتم” لا تتوغل في الزمن البعيد ولا تسرف في استعادة الميثلوجيا الشعبية إنما شخصياتها تتحرك في واقع لا يخلو من مظاهر المرحلة الجديدة في بيرو، أما الحاضنة المكانية للرواية تشاطرها مدينتا ليما وبيورا. وقبل أن يسأل القارئ عن الرابط بين القصص الثلاثة الأساسية التي تتوالى تفاصيلها في جغرافيات متباعدة نسبيا يسد المؤلف المسافة من خلال سفر آرميدا إلى مدينة بيورا هربا من ابني زوجها الراحل. فأقامت في بيت صاحب شركة النقل لأن زوجة الأخير أختها.
    الهدف الأبيض


    فارغاس يوسا يتفوق في إدارة الشخصيات وبناء الممرات للروافد السردية التي تصب في متانة الحبكة لروايته

    التصميم الفني للرواية لا يقوم على الحبكة وزخم الحدث فحسب، بل يضاهي النص الروائي تركيبة الحياة في اتساعه للتفاصيل الثانوية والاسترسال في متابعة كل ما يبدو واقعا على حاشية الإطار. وبالطبع إن حذف هذه العناصر قد لا يغير كثيرا من تشكيلة العمل الروائي، فعلى سبيل المثال لو غابت قصة البقال لاو الصيني أو شخصية الأب أدودونوفان أو ليتوما أو أعمى الناصية في رواية “البطل المتكتم” لا تختلط الخطوط السردية ولا ينتقص منسوب التشويق حتى لو لم يضف المؤلف حادثة إحراق مقر شركة النقل إلى ترويسة متن مرويته، لكن اندساس هذه الجزئيات في الرواية يوهم بالواقعية وبالتالي يندمج القارئ مع مناخها لأن ما يتابع في النص الأدبي أو الفيلم السينمائي يعدل ما هو موجود ويصادف في الواقع حتى ولو ورد في الرواية بنسخة فنتازية.

    لا شك في أن ما يعجن منه الكاتب مادته الإبداعية قد سمعه سابقا أو عاينه فعليا، لذا لا يعلو النص على مشاهداته إلا في صيغته الفنية. تفوق يوسا في إدارة الشخصيات وبناء الممرات للروافد السردية التي تصب في متانة الحبكة كما تجد بصمة المؤلف واضحة لاسيما في الافتتاحية إذ المعروف عن يوسا غرامه برمياته المدوية، هذا ما يلاحظ في “من قتل بالومينو مورليو؟” لكن ما يخيب المتلقي في “البطل المتكتم” هو الخاتمة إذ يعلن فونتشيتو بأن ما كان يسميه بإديليبيرتو توريس الذي ادعى بأنه يرافقه ليس إلا فبركة متخيلة وتلاعبا بمزاج والديه.

    وبما أن يوسا كان يحب كرة القدم وتزامنت لحظة رحيله مع موعد مباراة فريقه المفضل وعرف مواطنوه نبأ موته على لسان المعلق الرياضي لذلك لا مندوحة إذا تمت الاستعانة بمعجم الساحرة المستديرة والقول إن نهاية روايته تشبه ما يسمى في كرة القدم بالهدف الأبيض الذي لا يحسب، لأن اللاعب لم يكسر خط التسلل تماما هذا ما يحدث في القفلة الأخيرة لـ”البطل المتكتم.”

    لا يسعك وأنت أمام الجملة الختامية إلا أن تعلق قائلا صحيح أيها السيد فارغاس يوسا نجحت في تمريراتك القصيرة والطويلة وأبدعت في اللعب بمناطق مختلفة وعبرت الخط، لكن صافرة عدم الاقتناع أفسدت الاحتفال لأنك متسلل.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    كه يلان محمد
    كاتب عراقي
يعمل...