"ساعية البريد" حكاية امرأة ملكت الإرادة الفردية لمواجهة صلابة المجتمع
فرانشيسكا جانُّونيه تروي حكاية جدتها ساعية البريد المتمردة على مجتمعها.
السبت 2025/05/31
ShareWhatsAppTwitterFacebook

آنا المرأة المتمردة (لوحة ميساء محمد)
في خطوة جريئة اختارت الكاتبة الإيطالية فرانشيسكا جانُّونيه أن تحول قصة جدتها إلى حكاية روائية ملهمة، وهي التي تمردت على مجتمعها بأن أصبحت أول ساعية بريد في منطقتها، لترينا كيف أن الإرادة الفردية قادرة على كسر النمطية في الوعي الجمعي وصنع حكايات نجاح يخلدها التاريخ. وهي تروي كل ذلك استنادا إلى وثائق تركتها جدتها، واستعانت بها لتمر على حقبة مهمة من تاريخ إيطاليا.
تأخذنا الكاتبة الإيطالية فرانشيسكا جانُّونيه في روايتها "ساعية البريد" إلى قلب قرية ليتسانيلو الهادئة في جنوب إيطاليا، حيث تتشابك خيوط العادات والتقاليد مع رغبة امرأة في التحرر وترك بصمتها الخاصة. ليست هذه مجرد قصة عن ساعية بريد، بل هي لوحة فنية إنسانية غنية بالتفاصيل، تستكشف مواضيع الغربة، والاندماج، وقوة الإرادة الفردية في مواجهة صلابة المجتمع. الرواية ترجمها عن الإيطالية علا محمود وصدرت عن دار العربي مستوحاة من بطاقة عمل جدة جانُّونيه الكبرى، التي كانت ساعية بريد، والتي عُثر عليها بالصدفة في درج.
حكاية حقيقية
تقول الكاتبة عن الرواية: "كنت أساعد والدتي في تنظيف بعض الأثاث عندما اكتشفت درجا يضم هدايا تذكارية وصورا بالأبيض والأسود وبطاقة عمل جدتي الكبرى: آنا ألافينا ، بواتيري.. إنه كنز هائل. كانت بطاقة عمل جدتي عمرها مئة عام هي مصدر الإلهام ثم الصور القديمة والوثائق ورسائل الحب. لأسابيع بدأت في غربلة كل شيء هناك. لقد وجدت عالما ثريا، ما كان لهذه الرواية أن تظهر دونه. ظللت أسحب هذا الخيط حتى اكتشفت قصة أول ساعية بريد في إيطاليا.” آنا هي بطلة الرواية: هي من ليغوريا (في شمال إيطاليا)، في الثلاثينيات تقع في حب شاب مجتهد ومبهج وعاطفي من ليتسانيلو وتسمح لنفسها بالانجرار وراءه، والانتقال إلى الجنوب.
◙ فرانشيسكا جانُّونيه تأخذ قراءها إلى قلب قرية ليتسانيلو الهادئة أين تتشابك خيوط العادات والتقاليد مع رغبة امرأة في التحرر وترك بصمتها الخاصة
وتضيف جانُّونيه حفيدة بطلة الرواية، أنها لم تكتف بما عثرت عليه من وثائق وصور ورسائل حول آنا بل اعتمدت على قصص والدتها “والدتي هي الوصي على أشياء كثيرة للأسرة، ولا تزال تمتلك الهاون الذي استخدمته آنا لطحن الريحان، والذي نحتفظ به كإرث. بعد ذلك، تحدثت كثيرا مع كبار السن في القرية، الذين كانوا أطفالا في حياة آنا. تذكروا جميعا هذه المرأة التي أطلقوا عليها اسم ‘الغريب’. لقب بقي معها حتى نهاية أيامها. جمعت هذه الشهادات وقمت بالكثير من الأبحاث التاريخية عن ليتسانيلوفي تلك السنوات، خاصة في الثلاثينات، ثم ما بعدها، حتى الستينات من القرن الماضي.”
تشكل الفاشية خلفية تاريخية لأحداث الرواية. حيث يشار إلى صعود موسوليني والفاشية في إيطاليا وتأثير ذلك على حياة الناس في القرية. يظهر ذلك في بعض الحوارات أو الأوصاف التي تعكس الأجواء السياسية والاجتماعية لتلك الفترة. وتدمج الروائية هذه الخلفية التاريخية مع القصة الشخصية لبطلتها آنا وتحدياتها في المجتمع.
تبدأ الرواية بوصول آنا، المرأة الشمالية الجميلة والكتومة، التي تبدو بفضل أنفها المستقيم المنتصب وسط وجهها كتمثالٍ يوناني،ٍ إلى ليتسانيلو برفقة زوجها كارلو العائد إلى مسقط رأسه عام 1934. منذ اللحظة الأولى، تجد آنا نفسها تعيش في بلدة ريفية صغيرة، تختلف عاداتها وطريقة تفكيرها عن نساء القرية. إنهن يتحدثن لهجة غير مفهومة بالنسبة لها، التسلية الوحيدة لهن تتمثل في الثرثرة. تشعر آنا بأنها غريبة في هذا المكان. هي المعلمة والأديبة، بأسلوبها الصريح ورؤيتها المتحررة، ينتهي بها الأمر لتصبح “الغريبة”، الأجنبية، غير المقبولة في المجتمع.
تمل آنا من عدم وجود هدف في البلدة النائية، ترغب في التغلب على الوحدة التي فرضها عليها زوجها كارلو، المنشغل تمامًا بإدارة قبو جريكو لإنتاج النبيذ. إنها سنوات الثلاثينيات، وبالتأكيد لا يمكن لامرأة أن تفكر في القيام بعمل رجالي، متجاوزة الأماكن والأدوار التي لا تنتمي إليها. ومع ذلك، قررت آنا أن تفعل ذلك، وبدأت بذلك ثورة شخصية صغيرة، لأنها كانت تعرف دائمًا أنها لا تحتاج إلى أي رجل لتكون مستقلة “هناك شخص واحد فقط يمكنه إنقاذك،” قالت آنا للورينزا بنبرة صارمة. “أنتِ، أنتِ فقط تستطيعين إنقاذ نفسك. لا يوجد أمير ساحر، صدقيني.” في مواجهة ارتياب كارلو نفسه، ستجد آنا في أنطونيو صديقًا وحليفًا.
تسنح الفرصة للبطلة، فتقرر أن تقوم بفعل ثوري عام 1935، عند ما توفي ساعي بريد القرية، ترشح نفسها وتتقدم للوظيفة، مما يثير استياء زوجها والبلدة بأكملها. الشخص الوحيد الذي دعمها هو أنطونيو، أخو زوجها، الحالم، الهادئ، الذي أحبها سرًا منذ أول مرة رآها فيها. وهكذا بتحديها للتقاليد والعادات، تصبح آنا أول ساعية بريد في ليتسانيلو، لتغير قصتها وقصص الأشخاص من حولها إلى الأبد.
تغيير في الوعي الجمعي
يبرز هذا الفعل شخصية آنا كامرأة قوية ومستقلة، تتوق إلى فعل شيء ذي قيمة في حياتها. ومن ثم يمثل قرارها بالتقدم لوظيفة ساعية البريد نقطة تحول محورية في الرواية. في مجتمع محافظ ترى فيه معظم النساء أن دورهن محصور في المنزل، يصبح عمل آنا كساعية بريد بمثابة تحدٍ صامت لهذه النظرة. تحمل آنا على كتفيها حقيبة الرسائل، ولكنها تحمل أيضًا بذور تغيير تدريجي في وعي أهل القرية.
◙ الرواية تظهر كيف يمكن للمرأة القادمة من ثقافة أخرى أن تثري المجتمع المحلي بطريقة مختلفة في الحياة
على مدار أكثر من ثلاثين عامًا، تجوب آنا دروب القرية، توصل الرسائل والأخبار، وتصبح بذلك جزءًا لا يتجزأ من نسيجها الاجتماعي. من خلال تفاعلاتها اليومية مع الأهالي، نتعرف على تفاصيل حياتهم، أفراحهم وأحزانهم، أسرارهم وهمساتهم. تصبح أكثر من مجرد ساعية بريد؛ إنها عين القرية التي ترى ما لا يراه الآخرون، وأذنها التي تسمع ما لا يُقال علنًا. إنها الخيط غير المرئي الذي يوحد سكان القرية. أولا سيرا على الأقدام ثم بالدراج، ستسلم رسائل الجنود، وتقرأها لأولئك الذين لا يستطيعون القراءة، رسائل الأولاد، والبطاقات البريدية للمهاجرين، ورسائل العشاق السريين، وتؤسس بيت المرأة لتطور الإناث وهو عبارة عن حلقة نقاشية لمساعدة النساء اللواتي يعانين من صعوبات: الأمهات الشابات، والبغايا، وأرامل الحرب، والنساء اللواتي تعرضن للإيذاء.
وعلى الرغم من كل ذلك، لم تستطع الاندماج كلية، فبعد ثلاثين عاما من وصولها، ستبقى آنا في نظر مجتمع القرية “الغريب/ الأجنبي”، الشخص الذي جاء من الشمال، المختلف، الذي لا يذهب إلى الكنيسة، الذي يقول دائما ما يفكر فيه، الفخور والمنفعل الذي لا ينحني أبدا للقوانين غير المكتوبة التي تسجن نساء الجنوب.
هكذا لا تخلو رحلة آنا من الصعوبات والتحديات، حيث تواجه نظرات الشك والفضول، وأحيانًا الاستياء من بعض أفراد المجتمع الذين يرون في عملها خروجًا عن المألوف. ومع ذلك، تثابر آنا بإصرارها وهدوئها، وتنجح ببطء في كسب احترام وتقدير الكثيرين. مدعومة بالحب الذي يربطها بزوجها كارلو، وهو الحب الذي ستكون قوته واضحة بشكل مؤلم لشقيقه الأكبر أنطونيو، الذي وقع في حبها في اللحظة التي رآها فيها تنزل من الحافلة حاملة ابنها “روبرتو.”
الرواية ليست آنا فقط، إنها رواية عائلية وتاريخية بها العديد من الشخصيات وشبكة كثيفة جدا من العلاقات. وتتناول العديد من الموضوعات المختلفة. بادئ ذي بدء، صعود الفاشية والحرب اللذان يمثلان قوة خارجية تؤثر على القرية الصغيرة وحياة آنا الفردية، والتنازلات التي تدفعنا إليها الحياة، والمعارضة التي تحولها المشاعر إلى مصلحة خالصة. فأنطونيو، مثالا، قريب جدا من أخيه كارلو ويدعم جميع مشاريعه، لكنه معجب بشدة بآنا، معتبرا أنها امرأة جميلة. من جانبها تخلق رابطة خاصة معه حيث تتبادل معه الرسائل السرية والروايات مثل “الأخوات برونتي” و”جين أوستن”، وروايات تولستوي وفلوبير ودوستويفسكي، ويحملانها رسائلهما السرية من خلال وضع خط تحت الجمل التي تحمل مشاعرهما.
نظرة على التاريخ
توافق أجاتا، زوجة أنطونيو، على عيش حب خال من العاطفة والشعور، وتقبل برودة زوجها وتحاول التقليل من حدتها في نظر ابنتها لورينسا. ثم هناك كارلو الذي يحب زوجته آنا، لكنه يجد كارميلا بعد سنوات، والتي تركها للانتقال إلى الشمال ولم ينس حبهما أبدا، على الرغم من زواجه الآن. حدقتْ إليه كارميلا بنظرة ساخرة ثم قالت: “أنت أكثر الناس براعة في الاختفاء. اختفيتَ قبل اثني عشر عامًا واختفيتَ الآن أيضًا. ما الذي تعتقده أنت، أن على الناس أن يتقبلوا دومًا أمر اختفائك وأن يبقوا لطفاء وصامتين؟ لا، هذه المرة سأتكلم”. أسند كارلو يده على إطار الباب وغمغم قائلًا وهو يلقي نظرة أخرى على الشارع: كارميلا، كان لهذه العَلاقة أن تنتهي آجلًا أو عاجلًا. ردَّت عليه كارميلا: وكالعادة اتخذت أنت هذا القرار بمفردك بين ليلة وضحاها دون أن تسمح لأحد أن يعترض أو يبدي رأيه.”
◙ الفاشية تشكل خلفية تاريخية لأحداث الرواية. حيث يشار إلى صعود موسوليني والفاشية في إيطاليا وتأثير ذلك على حياة الناس في القرية
تتناول الرواية ببراعة موضوع الغربة والاندماج. وتكشف عن صعوبة أن تكون مختلفًا في مجتمع متجانس، وعن الجهد الذي تبذله آنا لبناء جسر من التواصل مع أهل القرية. في المقابل، تظهر الرواية أيضًا كيف يمكن للمرأة القادمة من ثقافة أخرى أن تثري المجتمع المحلي بمنظور جديد وطريقة مختلفة في الحياة. تنجح چانُّونيه في رسم شخصيات واقعية ومعقدة، سواء كانت “آنا” بصلابتها الداخلية وحزنها الخفي، أو أفراد عائلة جريكو وأهل القرية بعاداتهم المتوارثة وحكمتهم البسيطة. الأجواء الجنوبية الإيطالية حاضرة بقوة في وصف المناظر الطبيعية والعلاقات الاجتماعية.
يذكر أن جانُّونيه قسمت الرواية إلى تمهيد وثلاثة أجزاء، التمهيد 13 أغسطس 1961 ساعية البريد”ليتسانيلُّو” (ليتشي)– بوليا- جنوب إيطاليا” وهو اليوم الذي توفيت فيه “آنا”، ثم الجزء الأولمن يونيو 1934 إلى ديسمبر 1938، ثم الجزء الثاني من أبريل 1945 – إلى يونيو 1949، الجزء الثالث نوفمبر 1950 – مايو 1952. وفي نهاية الرواية توجهت بالشكر لعدد من الشخصيات التي ساهمت في دعمها، وختمت كلامها بالقول “أودُّ أن أقدِّم للقارئ بعض التوضيحات الضرورية؛ فالبلدة التي وُصفت في هذه الصفحات باسم ليتسانيلُّو هي في الحقيقة مجموعة من عدة قرى صغيرة واقعة في مِنْطَقة سالينتو. كنت أستعير منظرًا من كل قرية من تلك القرى لكي أنقِل للقارئ المناظر الطبيعية والأجواء المحلِّية لتلك المِنْطَقة بأفضل ما أستطيع. أمَّا سكان البلدة الذين جئت على ذكرهم في الرواية فَهُم جميعًا من وحي خيالي ولا يمتُّون إلى الواقع بصِلة، وأي تشابه بينهم وبين أشخاصٍ حقيقيين هو محض مصادفة وغير مقصودٍ تمامًا؛ وأخيرًا، يجب التنويه بأن الأحداث التي مرَّت بها أسرة جريكو خضعت لتعديلاتٍ كبيرة وإعادة صياغة واسعة النطاق كي تتنَاسب ومتطلبات السرد، فالقصة التي أرويها هنا ليست قصتهم الحقيقية”.
ShareWhatsAppTwitterFacebook

محمد الحمامصي
كاتب مصري
فرانشيسكا جانُّونيه تروي حكاية جدتها ساعية البريد المتمردة على مجتمعها.
السبت 2025/05/31
ShareWhatsAppTwitterFacebook

آنا المرأة المتمردة (لوحة ميساء محمد)
في خطوة جريئة اختارت الكاتبة الإيطالية فرانشيسكا جانُّونيه أن تحول قصة جدتها إلى حكاية روائية ملهمة، وهي التي تمردت على مجتمعها بأن أصبحت أول ساعية بريد في منطقتها، لترينا كيف أن الإرادة الفردية قادرة على كسر النمطية في الوعي الجمعي وصنع حكايات نجاح يخلدها التاريخ. وهي تروي كل ذلك استنادا إلى وثائق تركتها جدتها، واستعانت بها لتمر على حقبة مهمة من تاريخ إيطاليا.
تأخذنا الكاتبة الإيطالية فرانشيسكا جانُّونيه في روايتها "ساعية البريد" إلى قلب قرية ليتسانيلو الهادئة في جنوب إيطاليا، حيث تتشابك خيوط العادات والتقاليد مع رغبة امرأة في التحرر وترك بصمتها الخاصة. ليست هذه مجرد قصة عن ساعية بريد، بل هي لوحة فنية إنسانية غنية بالتفاصيل، تستكشف مواضيع الغربة، والاندماج، وقوة الإرادة الفردية في مواجهة صلابة المجتمع. الرواية ترجمها عن الإيطالية علا محمود وصدرت عن دار العربي مستوحاة من بطاقة عمل جدة جانُّونيه الكبرى، التي كانت ساعية بريد، والتي عُثر عليها بالصدفة في درج.
حكاية حقيقية
تقول الكاتبة عن الرواية: "كنت أساعد والدتي في تنظيف بعض الأثاث عندما اكتشفت درجا يضم هدايا تذكارية وصورا بالأبيض والأسود وبطاقة عمل جدتي الكبرى: آنا ألافينا ، بواتيري.. إنه كنز هائل. كانت بطاقة عمل جدتي عمرها مئة عام هي مصدر الإلهام ثم الصور القديمة والوثائق ورسائل الحب. لأسابيع بدأت في غربلة كل شيء هناك. لقد وجدت عالما ثريا، ما كان لهذه الرواية أن تظهر دونه. ظللت أسحب هذا الخيط حتى اكتشفت قصة أول ساعية بريد في إيطاليا.” آنا هي بطلة الرواية: هي من ليغوريا (في شمال إيطاليا)، في الثلاثينيات تقع في حب شاب مجتهد ومبهج وعاطفي من ليتسانيلو وتسمح لنفسها بالانجرار وراءه، والانتقال إلى الجنوب.

وتضيف جانُّونيه حفيدة بطلة الرواية، أنها لم تكتف بما عثرت عليه من وثائق وصور ورسائل حول آنا بل اعتمدت على قصص والدتها “والدتي هي الوصي على أشياء كثيرة للأسرة، ولا تزال تمتلك الهاون الذي استخدمته آنا لطحن الريحان، والذي نحتفظ به كإرث. بعد ذلك، تحدثت كثيرا مع كبار السن في القرية، الذين كانوا أطفالا في حياة آنا. تذكروا جميعا هذه المرأة التي أطلقوا عليها اسم ‘الغريب’. لقب بقي معها حتى نهاية أيامها. جمعت هذه الشهادات وقمت بالكثير من الأبحاث التاريخية عن ليتسانيلوفي تلك السنوات، خاصة في الثلاثينات، ثم ما بعدها، حتى الستينات من القرن الماضي.”
تشكل الفاشية خلفية تاريخية لأحداث الرواية. حيث يشار إلى صعود موسوليني والفاشية في إيطاليا وتأثير ذلك على حياة الناس في القرية. يظهر ذلك في بعض الحوارات أو الأوصاف التي تعكس الأجواء السياسية والاجتماعية لتلك الفترة. وتدمج الروائية هذه الخلفية التاريخية مع القصة الشخصية لبطلتها آنا وتحدياتها في المجتمع.
تبدأ الرواية بوصول آنا، المرأة الشمالية الجميلة والكتومة، التي تبدو بفضل أنفها المستقيم المنتصب وسط وجهها كتمثالٍ يوناني،ٍ إلى ليتسانيلو برفقة زوجها كارلو العائد إلى مسقط رأسه عام 1934. منذ اللحظة الأولى، تجد آنا نفسها تعيش في بلدة ريفية صغيرة، تختلف عاداتها وطريقة تفكيرها عن نساء القرية. إنهن يتحدثن لهجة غير مفهومة بالنسبة لها، التسلية الوحيدة لهن تتمثل في الثرثرة. تشعر آنا بأنها غريبة في هذا المكان. هي المعلمة والأديبة، بأسلوبها الصريح ورؤيتها المتحررة، ينتهي بها الأمر لتصبح “الغريبة”، الأجنبية، غير المقبولة في المجتمع.
تمل آنا من عدم وجود هدف في البلدة النائية، ترغب في التغلب على الوحدة التي فرضها عليها زوجها كارلو، المنشغل تمامًا بإدارة قبو جريكو لإنتاج النبيذ. إنها سنوات الثلاثينيات، وبالتأكيد لا يمكن لامرأة أن تفكر في القيام بعمل رجالي، متجاوزة الأماكن والأدوار التي لا تنتمي إليها. ومع ذلك، قررت آنا أن تفعل ذلك، وبدأت بذلك ثورة شخصية صغيرة، لأنها كانت تعرف دائمًا أنها لا تحتاج إلى أي رجل لتكون مستقلة “هناك شخص واحد فقط يمكنه إنقاذك،” قالت آنا للورينزا بنبرة صارمة. “أنتِ، أنتِ فقط تستطيعين إنقاذ نفسك. لا يوجد أمير ساحر، صدقيني.” في مواجهة ارتياب كارلو نفسه، ستجد آنا في أنطونيو صديقًا وحليفًا.
تسنح الفرصة للبطلة، فتقرر أن تقوم بفعل ثوري عام 1935، عند ما توفي ساعي بريد القرية، ترشح نفسها وتتقدم للوظيفة، مما يثير استياء زوجها والبلدة بأكملها. الشخص الوحيد الذي دعمها هو أنطونيو، أخو زوجها، الحالم، الهادئ، الذي أحبها سرًا منذ أول مرة رآها فيها. وهكذا بتحديها للتقاليد والعادات، تصبح آنا أول ساعية بريد في ليتسانيلو، لتغير قصتها وقصص الأشخاص من حولها إلى الأبد.
تغيير في الوعي الجمعي
يبرز هذا الفعل شخصية آنا كامرأة قوية ومستقلة، تتوق إلى فعل شيء ذي قيمة في حياتها. ومن ثم يمثل قرارها بالتقدم لوظيفة ساعية البريد نقطة تحول محورية في الرواية. في مجتمع محافظ ترى فيه معظم النساء أن دورهن محصور في المنزل، يصبح عمل آنا كساعية بريد بمثابة تحدٍ صامت لهذه النظرة. تحمل آنا على كتفيها حقيبة الرسائل، ولكنها تحمل أيضًا بذور تغيير تدريجي في وعي أهل القرية.

على مدار أكثر من ثلاثين عامًا، تجوب آنا دروب القرية، توصل الرسائل والأخبار، وتصبح بذلك جزءًا لا يتجزأ من نسيجها الاجتماعي. من خلال تفاعلاتها اليومية مع الأهالي، نتعرف على تفاصيل حياتهم، أفراحهم وأحزانهم، أسرارهم وهمساتهم. تصبح أكثر من مجرد ساعية بريد؛ إنها عين القرية التي ترى ما لا يراه الآخرون، وأذنها التي تسمع ما لا يُقال علنًا. إنها الخيط غير المرئي الذي يوحد سكان القرية. أولا سيرا على الأقدام ثم بالدراج، ستسلم رسائل الجنود، وتقرأها لأولئك الذين لا يستطيعون القراءة، رسائل الأولاد، والبطاقات البريدية للمهاجرين، ورسائل العشاق السريين، وتؤسس بيت المرأة لتطور الإناث وهو عبارة عن حلقة نقاشية لمساعدة النساء اللواتي يعانين من صعوبات: الأمهات الشابات، والبغايا، وأرامل الحرب، والنساء اللواتي تعرضن للإيذاء.
وعلى الرغم من كل ذلك، لم تستطع الاندماج كلية، فبعد ثلاثين عاما من وصولها، ستبقى آنا في نظر مجتمع القرية “الغريب/ الأجنبي”، الشخص الذي جاء من الشمال، المختلف، الذي لا يذهب إلى الكنيسة، الذي يقول دائما ما يفكر فيه، الفخور والمنفعل الذي لا ينحني أبدا للقوانين غير المكتوبة التي تسجن نساء الجنوب.
هكذا لا تخلو رحلة آنا من الصعوبات والتحديات، حيث تواجه نظرات الشك والفضول، وأحيانًا الاستياء من بعض أفراد المجتمع الذين يرون في عملها خروجًا عن المألوف. ومع ذلك، تثابر آنا بإصرارها وهدوئها، وتنجح ببطء في كسب احترام وتقدير الكثيرين. مدعومة بالحب الذي يربطها بزوجها كارلو، وهو الحب الذي ستكون قوته واضحة بشكل مؤلم لشقيقه الأكبر أنطونيو، الذي وقع في حبها في اللحظة التي رآها فيها تنزل من الحافلة حاملة ابنها “روبرتو.”
الرواية ليست آنا فقط، إنها رواية عائلية وتاريخية بها العديد من الشخصيات وشبكة كثيفة جدا من العلاقات. وتتناول العديد من الموضوعات المختلفة. بادئ ذي بدء، صعود الفاشية والحرب اللذان يمثلان قوة خارجية تؤثر على القرية الصغيرة وحياة آنا الفردية، والتنازلات التي تدفعنا إليها الحياة، والمعارضة التي تحولها المشاعر إلى مصلحة خالصة. فأنطونيو، مثالا، قريب جدا من أخيه كارلو ويدعم جميع مشاريعه، لكنه معجب بشدة بآنا، معتبرا أنها امرأة جميلة. من جانبها تخلق رابطة خاصة معه حيث تتبادل معه الرسائل السرية والروايات مثل “الأخوات برونتي” و”جين أوستن”، وروايات تولستوي وفلوبير ودوستويفسكي، ويحملانها رسائلهما السرية من خلال وضع خط تحت الجمل التي تحمل مشاعرهما.
نظرة على التاريخ
توافق أجاتا، زوجة أنطونيو، على عيش حب خال من العاطفة والشعور، وتقبل برودة زوجها وتحاول التقليل من حدتها في نظر ابنتها لورينسا. ثم هناك كارلو الذي يحب زوجته آنا، لكنه يجد كارميلا بعد سنوات، والتي تركها للانتقال إلى الشمال ولم ينس حبهما أبدا، على الرغم من زواجه الآن. حدقتْ إليه كارميلا بنظرة ساخرة ثم قالت: “أنت أكثر الناس براعة في الاختفاء. اختفيتَ قبل اثني عشر عامًا واختفيتَ الآن أيضًا. ما الذي تعتقده أنت، أن على الناس أن يتقبلوا دومًا أمر اختفائك وأن يبقوا لطفاء وصامتين؟ لا، هذه المرة سأتكلم”. أسند كارلو يده على إطار الباب وغمغم قائلًا وهو يلقي نظرة أخرى على الشارع: كارميلا، كان لهذه العَلاقة أن تنتهي آجلًا أو عاجلًا. ردَّت عليه كارميلا: وكالعادة اتخذت أنت هذا القرار بمفردك بين ليلة وضحاها دون أن تسمح لأحد أن يعترض أو يبدي رأيه.”
◙ الفاشية تشكل خلفية تاريخية لأحداث الرواية. حيث يشار إلى صعود موسوليني والفاشية في إيطاليا وتأثير ذلك على حياة الناس في القرية
تتناول الرواية ببراعة موضوع الغربة والاندماج. وتكشف عن صعوبة أن تكون مختلفًا في مجتمع متجانس، وعن الجهد الذي تبذله آنا لبناء جسر من التواصل مع أهل القرية. في المقابل، تظهر الرواية أيضًا كيف يمكن للمرأة القادمة من ثقافة أخرى أن تثري المجتمع المحلي بمنظور جديد وطريقة مختلفة في الحياة. تنجح چانُّونيه في رسم شخصيات واقعية ومعقدة، سواء كانت “آنا” بصلابتها الداخلية وحزنها الخفي، أو أفراد عائلة جريكو وأهل القرية بعاداتهم المتوارثة وحكمتهم البسيطة. الأجواء الجنوبية الإيطالية حاضرة بقوة في وصف المناظر الطبيعية والعلاقات الاجتماعية.
يذكر أن جانُّونيه قسمت الرواية إلى تمهيد وثلاثة أجزاء، التمهيد 13 أغسطس 1961 ساعية البريد”ليتسانيلُّو” (ليتشي)– بوليا- جنوب إيطاليا” وهو اليوم الذي توفيت فيه “آنا”، ثم الجزء الأولمن يونيو 1934 إلى ديسمبر 1938، ثم الجزء الثاني من أبريل 1945 – إلى يونيو 1949، الجزء الثالث نوفمبر 1950 – مايو 1952. وفي نهاية الرواية توجهت بالشكر لعدد من الشخصيات التي ساهمت في دعمها، وختمت كلامها بالقول “أودُّ أن أقدِّم للقارئ بعض التوضيحات الضرورية؛ فالبلدة التي وُصفت في هذه الصفحات باسم ليتسانيلُّو هي في الحقيقة مجموعة من عدة قرى صغيرة واقعة في مِنْطَقة سالينتو. كنت أستعير منظرًا من كل قرية من تلك القرى لكي أنقِل للقارئ المناظر الطبيعية والأجواء المحلِّية لتلك المِنْطَقة بأفضل ما أستطيع. أمَّا سكان البلدة الذين جئت على ذكرهم في الرواية فَهُم جميعًا من وحي خيالي ولا يمتُّون إلى الواقع بصِلة، وأي تشابه بينهم وبين أشخاصٍ حقيقيين هو محض مصادفة وغير مقصودٍ تمامًا؛ وأخيرًا، يجب التنويه بأن الأحداث التي مرَّت بها أسرة جريكو خضعت لتعديلاتٍ كبيرة وإعادة صياغة واسعة النطاق كي تتنَاسب ومتطلبات السرد، فالقصة التي أرويها هنا ليست قصتهم الحقيقية”.
ShareWhatsAppTwitterFacebook

محمد الحمامصي
كاتب مصري