إيمان عبدالرحيم .. الغربة جعلتني أطرح أسئلة أكبر عن الحياة والوجود

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  •  إيمان عبدالرحيم .. الغربة جعلتني أطرح أسئلة أكبر عن الحياة والوجود

    إيمان عبدالرحيم لـ"العرب": الغربة جعلتني أطرح أسئلة أكبر عن الحياة والوجود


    جيل جديد يكتب لا ليُعجب بل ليشهد ويقاوم ويقول الحقيقة.
    الخميس 2025/05/29
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    السخرية ليست رفضا بل وسيلة للصمود

    في زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات وتتقارب فيه النصوص، تطلّ علينا القاصة إيمان عبدالرحيم بصوت سردي شديد الخصوصية، يكتب من الجرح لا من الزينة، ومن الحلم لا من الحيلة. كتابتها لا تُجمّل الواقع ولا تروّضه، بل تفتح فيه كُوَّة غرائبية، قاسية أحيانا، وساخرة في الكثير من الأحيان. "العرب" كان لها هذا الحوار مع الكاتبة حول عوالمها ورؤاها.

    لتعري هشاشة النفس البشرية كما خبرتها، لا كما تُروى في الكتب؛ تنطلق الكاتبة إيمان عبدالرحيم من تخوم الذات إلى رحابة العالم، ومن الفقد والخوف إلى الكتابة كوسيلة للنجاة.

    منذ بداياتها، ارتكز تكوينها الثقافي على وعيٍ حسيٍّ ومعرفيٍّ تشكّل عبر القراءة المبكرة والتجريب الحر. تبلورت رؤيتها السردية كنوعٍ من العلاج الذاتي، ثم تحوّلت إلى مشروع أدبي يبحث عن الصدق لا التفسير، وعن المجاز لا الخطابة.

    في روايتها “الحجرات وقصص أخرى” ومجموعتها “مقطوعات عن الحب والخوف”، الصادرتين عن دار الكتب خان، نلمح هذا التداخل المدهش بين الغرائبي والواقعي، بين السخرية الحادة والبوح الخافت، بين استخدام الآيات القرآنية كمفاتيح تأويلية لا دعوية، وبين اللغة العامية كصوت شخصي لا أسلوبي فحسب.

    في هذا الحوار، نتعرف مع إيمان على جذور هذه الرؤية، وعلى ملامح التكوين الثقافي الذي صاغ صوتها المتفرد، وعلى تأثيرات الأدب الروسي واللاتيني، والسينما، والغربة حيث تقيم في ألمانيا، وعملها بإدارة الأعمال، بما شكّل وعيا كتابيا شفافا في رصده لتشظّي الذات والواقع معا.
    تجربة الكتابة



    تداخل مدهش بين الغرائبي والواقعي


    تقول إيمان عبدالرحيم “لم أبدأ من ‘تكوين ثقافي‘ بالمعنى الأكاديمي المتعارف عليه، بل من حاجة فطرية إلى النجاة بالكلمات. القراءة بدأت مبكرا جدا، ربما قبل أن أعي معنى العالم. كنت أقرأ كل ما يقع في يدي: مجلات قديمة، كتب مدرسية، قصص مصورة، ثم انتقلت إلى الرواية، فالشعر، فالفلسفة، فكتب علم النفس دون أن أعرف أن ما أفعله له اسم. مكتبتي، منذ الطفولة، لم تكن مؤدلجة ولا مصنفة، كانت خليطا حيا من كل شيء: أدب روسي ولاتيني، تاريخ، أساطير، سير ذاتية، ترجمات. كنت مفتونة بالكتب التي لا أستوعبها بالكامل، تلك التي تترك في النفس أثرا قبل أن تترك في العقل فكرة.”

    وتضيف “مع الوقت، بدأت أعي أنني لا أقرأ فقط كي أفهم، بل كي أعيش وكي لا أفقد توازني. والكتابة بدأت معي كوسيلة علاجية، حيث بدأت بتسجيل يومياتي، ثم أحلامي وكوابيسي، ثم أسئلتي التي بلا إجابات، وصولا لكتابتي الحالية… تأثرت بالأدب اللاتيني، لاسيما بورخيس وساراماجو وكورتاثر، لأنهم منحوني الإذن بأن أكتب من الحلم، ومن الخوف، ومن اللاعقل. وتأثرت بالأدب الروسي ـ تولستوي، دوستويفسكي، تشيخوف، جوجول ـ لأنهم جعلوا النفس البشرية مرآة بلا زينة. السينما أيضا تركت أثرا كبيرا، وبالذات سينما ديفيد لينش: أحبها لأنها لا تُبَسِّط الحياة، بل تُربكك، وتتركك غارقا في ظلالك.”

    وتتابع عبدالرحيم “لم أختر الكتابة بالأسلوب الغرائبي كنوع من التمرد، بل من كونها الطريقة الوحيدة التي شعرت أنها تشبه تجربتي فعلا. أنا لم أعش واقعا بسيطا أو مسطحا. الواقع ـ كما عشته وخبرته ـ كان دائما يحمل شيئا غير منطقي في قلبه. الغريب والساخر والعنيف لم يكونوا عندي أدوات ‘تجميل فني‘، بل كانوا انعكاسات داخلية حقيقية. أنا لا أرى العالم كما هو، بل كما تشوه داخلي. لهذا، حين أكتب، ينسكب الداخل كما هو، بلا فلترة. السخرية مثلا ليست رفضا، بل وسيلة للصمود. والغرائبية ليست خيالا صرفا، بل محاولة لشرح واقع لا يكفيه المنطق. والوحشية؟ أحيانا هي الشكل الأكثر صدقا لوصف ما عايشته كطفلة يتيمة، أو كمريضة اكتئاب، أو كغريبة، أو كناجية. الواقع حين نعيشه في ظل الخوف، الفقد، المرض، الفقر، الفقدان العقلي أو العاطفي، يكون متصدعا، زلقا، عبثيا أحيانا.. وما أفعله في الكتابة هو محاولة صادقة لرصد هذا التصدع، لا لتغطيته أو تبريره.”

    وحول استخدامها للغة العامية في “الحجرات وقصص أخرى”، تلفت الكاتبة إلى أن استخدام العامية لم يكن قرارا “لغويا” بقدر ما كان قرارا وجوديا. قائلة “أنا لا أكتب فقط بما أراه مناسبا فنيا، بل أكتب بما يُشبهني، بما يشبه الشخصيات، بما يشبه اللحظة. العامية بالنسبة إلي ليست لغة أقل شأنا أو أقل أدبية، بل على العكس هي اللغة التي نحلم بها، ونصرخ بها، وتحدثنا بها أنفسنا. العامية هنا ليست خيارا أسلوبيا فقط، بل أخلاقيا أيضا: أن أترك للشخصية صوتها الحقيقي. ثم إنني ـ كإيمان ـ تربّيت على هذه اللغة، شأنها كشأن الفصحى، لذا فإن الصوت الذي أسمعه في رأسي حين أكتب يتحدث دائما بمزيج بين اللغتين. ولهذا، لا أقدّس العامية على حساب الفصحى. أستخدم الفصحى حين تستدعي اللحظة التكثيف والتأمل والصمت. وأمزج بينهما حين يتطلب النص أن أتنقّل بين مستويات النفس، ووفق ما يستدعي الموقف أو اللحظة. الأدب عندي لا يبحث عن ‘الأصح‘، بل عن الأصدق.”

    الكاتبة لم تختر الأسلوب الغرائبي كنوع من التمرد، بل لأنه الطريقة الوحيدة التي شعرت أنها تشبه تجربتها

    أما عن استخدامها لأسماء السور في القرآن وأيضا لآياته سواء في رواية “الحجرات وقصص أخرى” أو مجموعة “مقطوعات على الحب والخوف”، فتوضح “اختياري لهذا نابع من حبي وإعجابي الشديد بالنص القرآني، بغض النظر عن التأويلات الدينية، فكتاب القرآن كتاب شاعري بديع، لا يخلو من الجمال والخصوصية والحساسية الصالحين لكل وقت، وفرد، وزمان. القصص لا تستخدم الآيات لتثبيت ‘رسالة دينية‘، بل لتأكيد أن القرآن هو مرآة نرى فيها أنفسنا، مخاوفنا، هشاشتنا، أسئلتنا. في كتابتي كل آية تشتبك مع التجربة الشخصية والإنسانية المعاصرة، أحيانا لتواسيها، وأحيانا لتزيد من توترها. أريد أن أقول ضمنا: القرآن لا يزال حيّا في تجاربنا النفسية والعاطفية، لا كوعظ، بل كمجاز مفتوح للمعنى. هذا أيضا نابع من جذر شخصي جدا، يمكن أن أختصره في عبارة: أنا بنت بيت متدين، نشأت على تلاوة القرآن قبل أن أفهمه، ثم بدأت أسمعه كموسيقى أولى، ثم كمعنى، ثم كصدى داخلي لأشجاني وأسئلتي.”

    وتؤكد عبدالرحيم أنه في مجموعة “مقطوعات على الحب والخوف” كل آية هي باب تأويل للقصة، لا تشرحها مباشرة، بل تفتحها على احتمالات رمزية. القصص لا تستخدم الآيات لتثبيت “رسالة دينية”، بل لتأكيد أن القرآن هو مرآة نرى فيها أنفسنا، مخاوفنا، هشاشتنا، أسئلتنا.

    مضيفة “في كتابتي كل آية تشتبك مع التجربة الشخصية والإنسانية المعاصرة، أحيانا لتواسيها، وأحيانا لتزيد من توترها. أريد أن أقول ضمنا: القرآن لا يزال حيّا في تجاربنا النفسية والعاطفية. مثلا في قصة ‘الموطن‘ الآية ‘وَأَرْضا لَمْ تَطَئُوهَا‘ الأحزاب، آية 27، الموطن هنا ليس وطنا ترابيا، بل حالة نفسية/ عاطفية مفقودة. الآية تختزل هذا الإحساس: أرض لم تُطأ بعد، حلم بالانتماء، باليقين، بالدفء الذي لم يُعش. وعن شيء كهذا تدور القصة. أيضا في قصة ‘اضحك تضحك لك الدنيا‘، الآية ‘إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ…‘ آل عمران، آية 175، تقابل التيمة السياسية بجذرها الروحي: الخوف الذي يصنعه الشيطان كرمز للقمع، للسلطة الفاسدة، للجنون السياسي. شادي هو ‘الضحية‘ و‘النبي المجنون‘، الذي يرى الحقيقة، لكن تُفسَّر رؤاه على أنها جنون. وهلاوسه تتضمن شياطيين كما في القصة.”

    وعن تأثرها بالسينما، تقول إيمان “ما تعلّمته من السينما، خاصة من أعمال ديفيد لينش، كياروستامي، بيرغمان، وتاركوفسكي، هو أن الحكاية لا تُروى بالضرورة خطيا، ولا يجب أن تكون مفهومة بالكامل. تعلّمت أن اللاوضوح أحيانا هو الصدق بعينه، وأن الشخصية يمكن أن تعيش الحكاية دون أن تفهمها، كما نفعل نحن في الحياة.”
    الصدق والتجريب



    تداخل بين السخرية الحادة والبوح الخافت


    تتحدث إيمان عبدالرحيم عن تأثير الغربة، حيث تعيش بألمانيا، على رؤيتها كاشفة أن “الغربة ـ وإن بدت مكانية ـ كانت في حقيقتها غربة وعي، وغربة رؤية، وغربة كتابة. حين كنت في مصر، كنت أكتب من الداخل ـ من بطن العاصفة، من الاحتكاك اليومي بالعائلة، بالضغوط، بالخوف، بالحزن الجماعي، كنت غارقة في التجربة لدرجة أنني لم أكن أراها بوضوح. كنت أكتب كما يُكتب داخل الحلم: بكثافة، بحرارة، ولكن أحيانا بدون مسافة كافية للرؤية. ثم جاء السفر، وجاءت ألمانيا، بكل اختلافاتها الثقافية والاجتماعية والنفسية، ووجدت نفسي أقف أمام عالمي القديم كمن يراه من خلف زجاج بارد وشفاف. لم أنفصل عنه، لكنه أصبح مرئيا بطريقة جديدة.”

    وتتابع “الغربة منحتني أشياء كثيرة: المسافة والهدوء والوحدة الكافيين للتأمل. الغربة أيضا عرّتني، سحبت عني كل مساحاتي المألوفة، وأجبرتني أن أطرح أسئلة أكبر عن الحياة والوجود. الواقع في ألمانيا مختلف جذريا: المجتمع لا يتدخل فيما يخصك، لكنه لا يحتضنك أيضا. لا أحد يسأل، وكل في حاله، لكن لا أحد يلاحظ انهيارك. وهذا، وإن كان قاسيا، إلا أنه علّمني أن ألاحظ نفسي بدقة. في مصر، كنت مشغولة بالآخر، كيف يفسّرني؟ كيف يفهمني؟ كيف يحاكمني أو يتعاطف؟ في الغربة، أصبحت مشغولة بذاتي من الداخل، بدون شهود. وكل هذا أثّر بالضرورة على كتابتي. أصبحت أكثر هدوءا، أكثر تجريبا، أكثر صدقا. لم أعد أكتب لأشرح، بل لأشهد.”

    وتلفت عبدالرحيم إلى أن عملها في إدارة الأعمال جعلها تحتك بنماذج بشرية متنوعة، تراها خارج لحظات البوح، تراها تلبس أقنعتها، تؤدي أدوارها، أحيانا تنهار، أحيانا تتقمص القوة، وأحيانا ـ وهذا ما يثيرها أكثر ـ تُخفي هشاشتها تحت لغة شديدة الصلابة. وتواصل “رأيت هذا في الزملاء، في المديرين، في الاجتماعات، في الأزمات الإدارية، وشعرت دائما أن كل هذا الهدوء الظاهري يخفي تحته بركانا من التوتر، الهواجس، القلق، الخوف من الفشل، ورغبة شرسة في الاعتراف. في كتابتي، أحاول أن أكشف هذا العالم، أن أكتب عن هؤلاء الذين لا يتكلمون في العلن، لكنهم يتحدثون داخلي، في قصصي، بشفافية موجعة. وفي النهاية، أنا أكتب عن الناس ـ مهما كانت خلفياتهم ـ حين ينكسر فيهم شيء صغير دون أن يلاحظهم أحد.”

    عبدالرحيم لا تكتب فقط بما تراه مناسبا فنيا وإنما تكتب بما يُشبهها ويشبه الشخصيات واللحظة بصدق وتجريب

    وتكشف الكاتبة “رغم أنني أعيش الآن بعيدا جغرافيا، إلا أنني ما زلت متورطة وجدانيا في المشهد الأدبي المصري، بل وأعتبره بيتي الأول، حتى وإن كان أحيانا ضيقا أو غير عادل. المشهد الإبداعي في مصر اليوم شديد الحيوية، لكنه يعاني من التناقض. لدينا طاقات هائلة، وأقلام تكتب بنضج مبكر، لكن في المقابل، ما زالت هناك عقبات كبيرة: سوق النشر محكوم بالبيع لا بالمعيار الفني. العلاقات والصداقات على وسائل التواصل، والشللية في الواقع تتحكم في ظهور كتاب معينين على حساب آخرين، الجوائز تحتكم أحيانا إلى حسابات لا علاقة لها بالنصوص.”

    وتضيف “رغم ذلك، أشعر أن هناك جيلا جديدا يكتب لا ليُعجب، بل ليشهد، ليقاوم، ليقول الحقيقة، مهما كانت مؤلمة. وقد أثّر هذا المشهد عليّ كثيرا. قرأت لجيل كتّاب شاب حرّضني على الصدق، وعلى التجريب، وعلى خوض المساحات الصعبة. وشعرت أنني لست وحدي، وأن هناك آخرين يكتبون بنفس الجُرح، حتى لو اختلفت اللغة أو الشكل. أنا مدينة للمشهد المصري بكل ما فيه: بالكتّاب الذين شجّعوني دون أن أعرفهم. بالأصدقاء الذين آمنوا بكتابتي، بالأصوات التي ناوشتني فأعادتني إلى الكتابة. وبالخيبة أيضا، لأنها علمتني أن الكتابة لا تكون ‘لهم‘ بل ‘لي‘.”

    وتضيف “أما عن المشهد الثقافي في مصر فهو كأي مشهد ثقافي حي مليء بالتناقضات: فيه النور والظل، النبض والجمود، الأصوات الصادقة، والصدى الأجوف. من إيجابياته: ثراء التجارب وتنوعها: هناك أصوات جديدة تكتب بجرأة، بوعي ذاتي، بأشكال غير تقليدية، تحفر لنفسها طريقا بعيدا عن السائد. رغم كل شيء، ما زالت هناك ورش، ندوات، مجلات مستقلة، منصات إلكترونية تمنح الكتاب والمبدعين فرصة الحضور والمشاركة. أيضا هو مشهد منفتح على التجريب حيث لم تعد الكتابة مشروطة بالنمطية أو الخضوع للنوع الأدبي، بل أكثر جرأة في الخروج من “نموذج الكاتب المثالي”. أما السلبيات فتتمثل في المركزية المفرطة: القاهرة لا تزال تحتكر المشهد، وغياب المؤسسات الداعمة بجدية حيث لا توجد منظومة حقيقية تعتني بالكاتب بعد النشر، أو تحميه من الإحباط والعزلة، أو تتيح له فرص الاستمرارية، أيضا هناك المجاملات، والشللية، والتمثيل بدل الجوهر حيث تُمنح المنصات للوجوه المتكررة، بينما الأصوات الجادة تظل مهمشة أو غير مرئية. وأخيرا التعامل مع الثقافة كزينة لا ضرورة حيث الثقافة لا تزال عند البعض “ترفا”، أو وسيلة للوجاهة، بينما هي ـ بالنسبة إليّ ولمن يشبهونني ـ كالماء والهواء.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    محمد الحمامصي
    كاتب مصري
يعمل...