سيرة أميرة كردية من دفء قرية كندور إلى صقيع ماغديبورغ

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • سيرة أميرة كردية من دفء قرية كندور إلى صقيع ماغديبورغ

    سيرة أميرة كردية من دفء قرية كندور إلى صقيع ماغديبورغ


    "أوراق فرح خاتون".. رواية تجعل من الكتابة شكلا من أشكال النجاة.
    الخميس 2025/05/15
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    الجسد مسرح للتأمل (لوحة للفنانة سارة شمة)

    تكمن قوة النسيج الروائي في قدراته على التشبيك بين الخيال والواقع لخلق عالم روائي متكامل، يخرج منه القارئ الذي يدخله بأفكار أخرى ومشاعر مختلفة وتصورات جديدة، وهذا ما يحدث لقارئ رواية "أوراق فرح خاتون" التي تجول بقارئها بين الأماكن من أبعد القرى الكردية إلى أهم مدن أوروبا، ومن الماضي إلى الحاضر.

    تمثل رواية "أوراق فرح خاتون" للروائي عيد كوري تجربة سردية ذات طابع استثنائي تمتزج فيها السيرة الفردية بالسياق الجمعي، وتروى الذات الكردية لا عبر صراع سياسي مباشر، بل من خلال جسد مريض وذاكرة محاصرة بالموت والعزلة.

    تدور أحداث الرواية حول فرح عبدالكريم عيسى علي، المرأة التي تكتب من سرير المرض في مستشفى في مدينة ماغديبورغ الألمانية، محاولة استعادة شريط حياتها الذي يبدأ من قريتها الكردية “كندور”، الواقعة على الحدود السورية – التركية، ولا ينتهي إلا في ذلك الفضاء المغترب الذي تواجه فيه مصيرها الأخير.
    حياة ثانية أنقى




    تشكل الرواية وعيها السردي من خلال منظور داخلي مكثف، حيث تتحدث فرح بصيغة المتكلم، مسترجعة طفولتها ومراهقتها، وترحالها، وسلسلة العلاقات التي شكلت عالمها. وما يبدو جليا هو أن الشخصيات المحيطة بها لا تنمو ككيانات مستقلة، بل تستعاد عبر أثرها النفسي فيها. الأم، الجدة، الإخوة، ومن بينهم أحمد – الأخ الحاضر في لحظات الطفولة والصراع اليومي – وكذلك حسان زينة، كفاح، غادة، جان والطبيب، والمريضة المجاورة، والأبناء، جميعهم يستدعون من منظورها، فتغدو ذاكرتهم امتدادا لذاكرتها، وملامحهم ظلالا خافتة على سطح وعيها المنهك.

    الزمن لا يسير في خط مستقيم، بل يتأرجح بين حاضر متجمد في المستشفى، وماض يتدفق كموجات ذاكرة غير منتظمة. قرية “كندور” تحتل مركز هذا الماضي، فهي ليست فقط نقطة انطلاق جغرافية، بل رمز البدء والحنين، تستدعى بأوصاف تشبه الحلم: قرية صغيرة، منعزلة، ملتوية على نفسها كخط على ورقة مهملة. من هناك تبدأ رحلة الشخصية إلى عامودا، حيث تتقاطع الهويات وتبدأ اللغة العربية في فرض نظامها، لتدخل الذات في طور جديد من التشكل والانشطار. ثم تنتقل إلى المنفى الأوروبي، وتحديدا إلى ماغديبورغ، حيث يصبح الجسد مسرحا للتأمل، لا مجرد وعاء للحركة. في هذه الرحلة، لا يكون المكان مجرد خلفية، بل حاملا دلاليا عميقا يوازي الزمن في ثقله وتأويله.

    لا يمكن فهم كندور في الرواية إلا باعتبارها موقعا أسطوريا بقدر ما هي موقع ولادة. فهذه القرية الكردية، الواقعة على حافة الجغرافيا والخيال، لا تستعاد بوصفها مكانا فقط، بل بوصفها ذاكرة مثقلة بالحكايات. في المخيال الجمعي الكردي، ترتبط قرى مثل كندور بأساطير عن الجدات اللواتي يعرفن لغة الماء، عن النساء اللواتي ينذرن المطر ويهددن الجن، وعن صخور تحفظ الهمسات كما تحفظ الحقول نداء الطفولة.
    رواية "أوراق فرح خاتون" تجربة سردية بطابع استثنائي تمتزج فيها السيرة الفردية بالسياق الجمعي عبر قصة امرأة

    تستدعي الرواية هذا التراث عبر طبقات شعورية رفيعة، لا تحيل القارئ إلى مرجعية تراثية صريحة، بل تجعل الحكاية الأسطورية تمتزج بالمشهد الواقعي كما يمتزج الضوء بالماء. وتغدو فرح، في ضوء هذه الخلفية، ابنة لهذا المزيج: من نسل الذاكرة والضوء والخسارة.

    أما لغة الرواية فتتسم بالهدوء والكثافة في آن. تمتنع عن الانفعال والاستعارة الجاهزة، وتختار بدلا من ذلك نبرة بين الهمس والتأمل، تجعل النص أشبه باعتراف أو صلاة داخلية. الجمل قصيرة لكنها محمّلة، لا ترهق القارئ بل تدفعه للإنصات. لا تزدهر اللغة هنا من أجل الزينة، بل لأن اللغة هي الوسيط الأخير بين الجسد والعالم، بين ما لا يقال وما يجب أن يقال الآن أو لا يقال أبدا. وحين تتداخل العربية بالكردية أو الإنجليزية، فإن هذا التداخل لا يأتي للزينة الثقافية، بل كترجمة لنفس منقسمة بين لسانين، وهويتين، وانتماءين لم يكتمل أحدهما.

    في تلك اللحظة التي لا يسمّى فيها الألم، بل يعاش، تبلغ الرواية ذروة صمتها المدوي. لا يصوّر الانهيار بالصوت أو الدمعة، بل بانقطاع اللغة نفسها، حين تصبح الجمل مجرد هواء ثقيل يمر من صدر منهك إلى عقل مثقل. هناك، على سرير الموت، لا نقرأ عن مرض جسدي فقط، بل عن تفكك داخلي صامت لامرأة كانت في طفولتها تبدو وكأنها أميرة من الأميرات، بما تحمله من كرامة وجمال وهيبة فطرية، فإذا بها تخلع أبّهتها وتواجه عري الجسد والوجود معا. تلك المفارقة لا تطرح كدراما، بل كوعي: كل ما كان يوما قوة يتحول الآن إلى عبء. ومع ذلك، لا تموت الشخصية داخل النص، بل تستعاد في الكتابة، كما لو أن السرد يمنحها حياة ثانية، أنقى من الأولى، وأعمق.
    رواية وعي


    الزمن في الرواية غير خطي يتأرجح بين حاضر متجمد في المستشفى وماض يتدفق كموجات ذاكرة غير منتظمة

    رغم ميل السرد في الكثير من المواضع إلى شكل من التقريرية، خصوصا حين تصف الساردة مشاهد المرض أو الطفولة أو الحوار مع الطبيب، فإن هذه التقريرية ليست ضعفا بل قناعا. تحت سطح هذا الوضوح، يعمل خيال عميق لا يصرخ ولا يصرّح، بل يتشكل من بنية التذكر ذاتها. الطفولة لا تروى كما وقعت، بل كما أعادت الساردة/الراوية تركيبها من عزلتها الأخيرة. الأمكنة، من كندور حتى ماغديبورغ، لا تكتب كمدن، بل كطبقات ذهنية. حتى الأشخاص – من الجدة إلى الطفلة في الغرفة المجاورة – يحضرون بهيئة مشوشة، كأنهم يخرجون من حلم لا من واقع.

    الخيال هنا ليس خيالا خارقا، بل ذلك النوع البطيء الذي يصوغ مشهدا عاديا “كالمشي في زقاق القرية” بأسلوب يعلّق الزمن ويجعله يتردد داخليا. هناك لحظات تخرج من التقرير إلى النشيد الصامت: لحظة تفكر البطلة في الاسم، في اللغة، في الحكايات التي لم تكتبها، في دفاترها القديمة، في الجدات اللاتي لم يقلن كل ما كان ينبغي أن يقال.

    إن اختيار اسم “فرح” – وهو اسم البطلة حقيقة، من وجهة نظر نقدية – ليس سهوا أو مصادفة. بل هو في حد ذاته بناء استعاري مقلوب، لمن لا يعرف شخوص الرواية ومكانها الأول، بل وأمكنتها التي تحتاج حقا إلى قراءة عميقة. فأن تحمل امرأة تنهكها المحنة هذا الاسم، فذلك إعلان ضمني عن التوق، لا عن التحقق. فرح لا تعني السعادة في هذه الرواية، بل خسارتها. ليست وصفا لحال، بل دلالة على ما لم يحدث. كل صفحة من الرواية تقول إن الفرح لم يكن يوما متحققا، بل كان وعدا مكسورا. الاسم إذا لا يمثل صاحبته، بل يخيبها، ويمنح الرواية توترها الهادئ بين ما يفترض أن يكون وما لم يكن.

    ما يجعل “أوراق فرح خاتون” نصا ذا خصوصية إضافة إلى حفر الروائي عيد كوري أرضا بوارا روائيا هو أنها لا تبنى بحبكة، بل بنبض، وأنها لا تتحرك فيها الشخصيات على مسرح درامي، بل تتناثر في وعي امرأة تكتب كي لا تنطفئ. هي رواية وعي لا رواية حدث. مصير لا مغامرة. تقف الكلمات فيها كأنها وحدات نفس، لا كجمل تقرأ وتنسى. وحين تنتهي، لا تشعر أن الرواية قد أغلقت بابها، بل إنك خرجت منها مثل من يغادر غرفة مريض يعرفه، ويعرف أن هذا اللقاء الأخير قد لا يتكرر، لكنه كان حقيقيا بما يكفي ليبقى.

    الرواية – باختصار- عن امرأة كردية مريضة، بل عن أميرة كردية. نعم، تركت أثرها في نفس كل من عرفها، كما حدث للناقد هنا عبر الفضاء الأزرق، وإن كنت أعرف عن قرب بيئة بطلة الرواية لكنها أيضا عن اللغة كجغرافيا بديلة، وعن الجسد حين يصبح زمنا موازيا، وعن الكتابة حين تمارس بوصفها شكلا أخيرا من أشكال النجاة. لا صراخ في هذه الصفحات، لكنها تمتلئ بما يكفي ليسمع من يقرأ بصدق.

    وجدير بالذكر أن رواية “أوراق فرح خاتون” للروائي عيد كوري صدرت عن دار خطوط وظلال في الأردن وجاءت لوحة الغلاف للفنان خضر عبدالكريم.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    إبراهيم اليوسف
    كاتب سوري
يعمل...