- مجلة أصدقاء ديونيزوس
ضمن باب "زوم"
- العدد العاشر، يونيو/ حزيران 2023
أسعد عرابي.. إِطْفاء الجَمْر في الصَّقيع
حوار وتقديم: بنيونس عميروش
فضلا عن حضوره الإبداعي الوازن منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي بعد تخرجه من جامعة دمشق (دبلوم الفنون الجميلة، 1966)، دأب الفنان التشكيلي والباحث أسعد عرابي على الكتابة حول الفن من منظور المُمارس والناقد والرّاصِد.
وفضلا عن امتلاكه اللغة المزدَوَجَة (العربية والفرنسية) والعُدَّة المعرفية والعلمية بحكم دراساته العليا في علوم الفن وعلم الجمال بخاصة (دكتوراه دولة من السوربون- جامعة باريس الأولى، 1987)، فإن آراءَهُ وأفكارَه وأحْكامَهُ الكاشِفَة تمتلك مصداقيتها من صِفَة الرِّيادة التاريخية التي أباحت له الاحتكاك بالأجيال الأولى من الفنانين العرب المُؤثِّرين، وبالمُعايشة المُباشِرة للتحوُّلات والمنعطفات والتصورات التي طبعت نشأة ومسار الفن العربي الحديث والمعاصر، إذ يناقش ويحلل ويقارب الفن من داخل المحترف التشكيلي والأحداث التي تَنْتُج عنه وتُحيط به، كما نَلْحظ ذلك في العديد من دراساته وإصداراته التي ظلت تُشكِّل أهم المراجع النقدية التي طالما اعتمدها الباحثون ونقاد الفن اللّاحقون. في هذا الحوار العميق والصريح، يقربنا صاحب "وجوه الحداثة في اللوحة العربية" من أَنْظارِه الشَّفيفَة بخصوص طبائِع الكتابة في الفن، ومسألة استقلال الفن في ضوء تأثير فلسفة الفن الإسلامي وما يتبع ذلك من جدل حول "الصورة"، علاوة عن أوضاع النقد الفني العربي اليوم، وقضايا مُجاوِرَة ذات الصِّلَة.
- بنيونس عميروش: من زاوية التِزامِك المعروف بالخِطابَيْن النقدي والجمالي، عَمَلْتَ في كِتابِك (معنى الحداثة في اللوحة العربية، 2006) على صياغة عنوان مُلفت لأول دراسَة ضمن الفصل الأول: "الفن العربي المعاصر تاريخ لم يُكْتَب بعد!"، تناولت فيها مختلف القضايا والمعيقات التي حالت دون تحقيق ذلك. ألا ترى معي أن معضلة تدوين تاريخ الفن العربي يرتبط أساسا بطبيعة الكتابات والمقاربات ذات الصلة، ومدى مصداقيتها النقدية والعِلْمية، لا سيما وأنك تكتب في الفن من داخل الممارسة الفنية ذاتها؟
أسعد عرابي: أبتدئ من البداية بوضع فاصل في الكتابة الفنية بين نصوص النقد الاستهلاكي الأدبي، (سواء في مقدمات كراسات المعارض الفرديّة أو التظاهرات الجماعية. في صالات العرض الخاصة أم المؤسسات الثقافية العامة. أو حدثيات "Les actualités" الصحافة الإعلامية) من جهة، والكتابات المختصَّة بفلسفة الجمال (يضاف إليها كتابات الفنانين أنفسهم)، من جهة ثانية. أي الفرق بين النقد المتسرِّع واليومي، وعلم الجمال التأملي المختص، ومناهجه في القرن العشرين.
أضف إلى ذلك أن دراساتي المتخصصة المتعمِّقَة الأكاديميَّة خلال ما يقرب من تسع سنوات (في جامعة السوربون)، رسخت لدي فكريا وكتابِيّا (وخلال المؤتمرات وتأليف الكتب الجمالية) العودة الحميدة إلى بَداهَة مصداقية ضرورة ممارسة الكتابَة عن الفن، من قبل ممارسي الفن أنفسهم، على مثال المؤسس الأول المصور العبقري أميديو فاساري.
أنا أعتبر أي نشاط فني، ما هو إلا لِقاحاً وتَوْليفاً بين التقنية (العقل) والفكر (الحدس).
إذن، من الضروري التوجه مباشَرَة إلى "المادة النوعية" في العمل الفني بمعزل عن التنظير المراهق المتسَرِّع والمُؤَسْلَب والمُنَمَّط بالجمل الإنشائية المؤدَّبَة والتي تُحَرِّف طبيعة "التنزيه" التشكيلي عن كُمونِيَّة تعْبيرِيَّتِه الخَطِّيَّة وألْوِيَّتِه دون طائل، ودون أن تُمْسِك بالأساسي فيه. لأنها غالبا مَنوطَة بوِصاية الأدب والكلمة على المادة البصريَّة. ابْتَدَأ هذا الانحراف في الفنّ الغربي (ما قبل الانطباعية) إلى أن أعاد بول سينياك قطار الكتابَة الفنية إلى سكَّة "الفاسارِيَّة" العريقَة. وإثر عدد من الفضائح على مثال إساءة الأديب إميل زولا في روايته لفن زميل طفولته بول سيزان، مما أخَّر تذوُّقَه أربعة عقود (قَبْل تكعيبية بيكاسو وبْراك).
- بنيونس عميروش: في مقابل الاجتهادات النظرية المُسْتَقِلَّة والفَعّالَة للفنانين أنفسهم، إلى أي حد يمكن أن نُلامِس المُجاوَرات والسِّمات النقدية للتدخلات الأدبية والصّحفيَّة في مُجِرَيات الفن ومُنْعَطَفاته، كما يحيلنا عليها تاريخ الفن الغَرْبي الحديث والمعاصر؟
أسعد عرابي: إن تفريخ الاتجاهات والمدارس ما بين المعاصرة والحداثة وما بعدها رسَّخ دور المبادرات النظرية للفنانين، والدور السلبي للنقد الصحفي (المُتَخَلِّف فنيا)، لدرجة أن أسماء الاتجاهات في القرن العشرين ما هي إلّا مُجْمَل مسَبّات نقدية. والخَلْط بين النقد الفني (أي التحليل) وبين الانتقاد وتجريح المُجَدِّدين. لنراجع مثلا تسمية "وَحْشِيّين" في صالون 1905م عن لوحات مجموعة هنري ماتيس وجاك فيون وأندريه ديران وهم أَرْهَف الفنانين في اللون، بقول أحد نقاد الصحافة أن معلم النحت "بورديل الكلاسيكي في قَفَص الوُحوش".
لعل أمثال هذه الانْتِقادات المجانية التي أربكت البوادر الرُّؤْيَوِيَّة الأولى للفن المعاصر قادت نابوليون الثالث عام 1889م لأن يؤسس "صالون المرفوضين". تبين فيما بعد أنهم كانوا من النخبة الرُّؤْيَوِيَّة المَمْنوعين أصلاً من العرض في "الصالون الرسمي". بول سيزان بالمُناسَبَة قُبِل فيه لأول مرة. وتَخَلَّص بذلك الفنانون من كابوس الأكاديميين المُتَحالفين مع نجوم الأدباء، ووصايتهم الذوقية المتخلفة.
من الضروري استدراك أن الوعي الجديد باستقلال الفن عن رَبْقَة الأَدَب، شمل رَهْطاً نُخبَوِيّاً من الأدباء والنقاد أيضا، ومثاله مواقف الشاعر أندريه بروتون مؤسس السوريالية، فقد طالب بطرد سلفادور دالي من المجموعة بسبب أَدَبِيَّة مضامين لوحاته، مُتَحالفا مع ماكْسْ إرْنِسْت الذي وجد في اللّاوَعْي والحُلم "الفرويدي" مادة فنية أشد حقيقة من الواقع الموصوف الباروكي.
تحول هذا التحالف (بديلا عن الوصاية) إلى تقاليد حِماية رَفَعَت صوت الفنانين. كلود مونيه أول من بَشَّرَ بخروج اللوحة إلى الهواء الطلق وتبدُّلات زمان الشمس. بول جوجان الذي كان من جماعة الانطباعيين ينتقدهم قائلا: "إنهم يَحومون حول العَيْن وليس في المركز الخَفِيّ للفِكْر"، وذلك ضمن قيادته لجماعة بون آفين في النّورْمانْدي. من هؤلاء بول سوريزييه الذي أعاد تعريف اللوحة بجملة حاسمة: "ما هي إلّا مجموعة ألوان مُنَسَّقَة حسب ذائقة المُصَوِّر [Le peintre]".لعله استرجاع لحق الفنان في تنظير لوحته في عصر النَّهْضَة الإيطالي حيث يُبَشِّر ميكيل آنج في النحت يقول: "أعطوني جبلا أعطيكم مدينة". ولعل كتاب الفنان ومُنَظِّر التنقيطية مِثالاً يُحْتَذى حول مصداقية كتابات الفنان في كتابه الانعطافي: "منذ أوجين دولاكروا وحتى ما بعد الانطباعية".
يُفَرِّق هنري ماتيس بين اللون الصّائِت واللون الصّامِت باعتبار أن الفن التشكيلي أقرب إلى الموسيقى منه إلى الأدب. وصل كوبكا بهذه القرينة أبعد من ذلك. وترسخت مع مدرسة الباوهاوس في وايمر ألمانيا خاصة بفضل مُدَرِّسين مُتَنَوِّرين من أمثال بول كلي وواسيلي كاندينسكي. يتحدثان عن مستقبل اللوحة والمنحوتة في هذه التَوْأميَّة: من خلال كتابَيْ علم جمال صَدَرا مُتَزامِنَيْن، الأول لكاندانسكي: "البعد الروحي في الفن المعاصر" يقول في مطلعه بأنه "سيأتي يوم قُرْب أو بُعْد ستتحوَّل فيه اللوحة إلى نوتة (مثل الموسيقى) قابلة للتطبيق من قِبَل عدد غير محدود من الفنانين". أما بول كلي فقد كان عازفا للكمان في فرقة البلدية، غالبا ما يترجم نوتاته ونوتات جان سِباسْتْيان باخ إلى لوحات تجريدية. لذلك، فقد كان عنوان كتابه عام 1910م مثل زميله: "الخط النقطة الدائرة".
بنيونس عميروش: باعتبارك باحثا في علم جمال الفن العربي الإسلامي القديم والمعاصر، وفي خضم الجدل الذي يندلع باستمرار حول "الصورة"، كيف تُقَيِّم مساهمة "التصوير" الإسلامي وفلسفته في منظومة الفن واستقلاله، باستحضار مسألة "التنزيه"؟
أسعد عرابي: يُلْقي المُسْتَعْرِب الحَلّاجي الكبير لوي ماسينيون محاضرة مُسْهِبَة وانفجاريَّة مكتوبة، طُبِعَت لأهمِّيتها فيما بعد، وذلك في مركز البحوث الجيولوجي للشرق الأوسَط في بيروت (حوالي 1936م على ما أذكر) يعلن فيها صراحة حقيقة اكتشافه لمنعَطَف "النقابات الروحية" وتراتُبِيَّة السلطة فيها برأسها النقيب المُسَمّى بالشّورى من أعضاء الطُّرُق الصّوفِيَّة وبهدف تجويد الصِّناعَة (أي الفنون) بما فيها صناعة الكتب والمخطوطات وخاصة تَصاويرُها المُدْعاة بـ "المُنَمْنَمات" La miniature (هو ميدان اختصاصي بالذات) التي استقلَّت مع تطورها حتى أصبحت مستقلة عن مضمون ونصوص المخطوطَة، أشهرها تصاوير محمود بن سعيد الواسطي (مقامات الحريري) في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي، محفوظة في المكتَبة الوطنية (رشيليو درووت) في باريس. اعْتَنى بإعادة طِباعتها، وبإذن خاص، الفنان ضياء العزاوي وأصبحت رمزا للتراث العراقي العباسي العربي والتنويري، شُهرتها تَفِد من نُدرَتِها كتُراث أساسي تشكيلي عربي حاول بعض المستشرقين إخفاءه أو طَمسه بشكل مقصود مثل كتاب إتنغهاوزن (Richard Ettinghaussen): الفن العربي أكبر مُعادٍ لهذا الميراث الثمين (لا يحتوي نماذجَه أي متحف عربي ما عدا مجموعة أحمد خليل الخاصّة التي ورّثها دار الكتاب في مصر). وقد عانَتْ هذه المنمنمات من مُصيبَتَيْن: اجتياح مكتبات بغداد عام 1258م من قبل هولاكو حتى أصبح ماء دجلة بلون المِداد وحملت أهم نماذجها إلى سَمَرْقَنْد وفقئَت أعيُن المُصَوّرين. والثانية دعوى غرق باخرة روتشيلد على السواحل المغربية التي تعانق أهم المخطوطات الأندلسية المُصَوَّرَة، قاعة السفراء في غرناطة تحوي تَصْويراً عملاقا يؤكد ازدهار فن الصورة مثل الموسيقى الزِّرْيابِيَّة في قرطبة. علينا اسْتِدْراك أن العرب المسلمين أخذوا أسرار ورق الكاغد والحِبْر الصّيني ومشتقات مواد التلوين من الأسرى الصّينيّين عام 750م بعد معركة تسالي التي انتصر فيها المسلمون. تطورت صِناعته ونُسخه بسرعة ولم يستخدم مثل أصوله (كاغد) عملة ورقية، وإنما للتصوير مع ورق الأرز، (مادة المناظر التقليدية الصّينيّة والطّاوِيَّة والكونْفوشيوسِيَّة). خُصِّص في المدينة الإسلاميَّة حيٌّ نُخبوي لـِ"الورّاقين" (المسكية في دمشق). تطورت إذاً أنواع الورق وإخراج الحِلْيات ومقدِّمات ورق الإبرو حتى تجاوزِ أي حدود لما بعد القرن الثامن تطبيقاً لحدود فلسفة التَّنْزيه وكراهِيَّة التَّشبيه (مثالها تصاوير الفسيفساء في جامع أُمَيَّة (الوليد بن عبد الملك) في القرن الثامن).
صحيح أن الفن العربي ورث بمُجمَله في عصور الانتداب والاستعمار مفهوم اللوحة المُسْنَدَة أو لوحة الحامل (L’art de chevalet) من الغرب. لكن أصول تصاوير المنمنمات استمرَّت عبر الفنون الشعبية خاصة باعتماد نفس الفلسفة التي غذَّتْها بَصيرة الطرق الصوفية بخاتمها "النَّقْشَبَندِيَّة". يعتبر مثلا ابن عربي وتلميذه جلال الدين الرومي بأنهم جماعة الذوق (الفن)؛ وهي طريقة للوصول إلى المُطلَق أو الحق، يقول الرومي: "كثير من الطُّرق تقود إلى الحقّ أمّا أنا فقد اخترت طريق الموسيقى والرقص" (المَوْلَوِيَّة). تذكرني نسبيَّة الجيلي بتطابُق العالم الصَّغيري المجْهري الميكروكوزم مع العالم الكَبيري التلسكوبي الماكروكوزم بكتاب كاندانسكي الذي استعار نفس المفهوم الفلسفي بما يؤكده ابن الرومي: "وتحسب أنك جرم صغير وفيك انْطَوى العالم الأكبر" (يُنسب القول خَطأً إلى ابن أبي طالب).
دعونا نراجع أبي حامد الغزالي في كتابه المُبْتَسَر: "البصر والبصيرة"، يتقمص موقف القطب العارِف ناصحا أحد مُريديه في التصوير، يُنبِّه إلى أن البَصَر يُخطِئ سبع مرات وتُصحِّح له البصيرة، فالبعيد يبدو صغيراً والقريب كبيرا، وهكذا مما يؤكد منظور عين الطائر (السّيمورغ أو العنقاء)، المُتعدِّد مواقع النظر، والمتعدد مصادر الضوء، لأنه يرى الأشياء من شتّى جهاتها. (اكْتشَفْتُ هذا المنظور مُبكِّراً ما قبل الستينات واكتشفه فيما بعد جواد سليم وطبقناه في تكوينات لوحاتنا).
يؤكد نقيب المصوِّرين في القرن السادس عشر في تبْريز النَّقْشَبَنْدي الصَّفَوي أكمل الدين بَهْراز أعظم مُصَوِّر في التاريخ الإسلامي: أغلبية اللون على الخط، وعلاقته بالموسيقى يقول:"إذا بشَّر طاوٍ قبل قرون بأن بداية الخلق هي الخط فأنا أُصحِّح له اليوم بأن بداية الخلق كانت اللون".
عندما سُئِل محمد عبده عن حقيقة تحريم التَّصوير قال بحسم: "لا يمكن أن تكون الحضارة العربية الإسلامية مُعاديَّة للفنون الجميلة". والحديث يطول دون طائل. فكلمة تصوير في عهد الرسول كانت تعني الوَثَن المَعْبود.
بنيونس عميروش: كيف ترى وضع النقد الفني الموصول بالمحترف العربي، في ضوء ما أنتجه الفنانون أنفسهم من خطابات وتصورات نظرية ساهمت في تفعيل وتسريع وتيرة ظهور المدارس والأساليب التشكيلية الحديثة والمعاصرة في العالم الغربي؟
أسعد عرابي: نحن نقلد أسوأ ما في الغرب متأخرين على الأقل بقرن من الزمان عنه. ذلك أنه مع نهاية القرن التّاسع عشر وبداية العشرين حصل انفجار تنظيري من قِبَل الفنانين الذين احتكروا مُبادرات المدارس والاتجاهات الفنية المُتصارِعَة والمُتدفِّقة في متاهات الحداثة والمعاصرة وراهنيَّة ما بعد الحداثة، وترسَّخ ابتعاد النقد غير المُمارِس للفن عن الدراسات الجِدِّيَّة الجامعية، ولم يعد مادة معرفية مخْبَرِيَّة قابلة لثوابت المناهج الأكاديمية، بل اقتصَر دور هؤلاء على الدِّعايَة الإِعْلامية أو التشكيلية للمعارض الخاصة وحتى التظاهرات العامة، والدفاع في البينالات عن تنظير هذه الجماعات، العارِضَة باسم الغاليريهات.
ابتدأت بالسيطرة التّامَّة من قِبَل مُبادرات مُمارسي اللوحة والمنحوتة ومُشْتقّاتها، من أمثال هنري ماتيس وأندريه ديران وبيكاسو وبول سينياك وبيير بونار وكوبْكا (Kupka) ودولونوي وجماعة الواقعية الجديدة، وعلى رأسهم الناقد الفَذّ الاستثنائي بيير ريستاني وكتابه الذي يُبَشِّر بهذه النَّزعَة ومشاريع تبادل المعارض بين باريس ونيويورك حتى اختلط بهم جماعة البوب أرت، سيزار تحول إلى البوب وروشنبرغ تحول إلى الواقعية الجديدة (أو المُحْدَثَة)، ثم مارسيل دوشامب والريدي ماد لأول مرة، ثم المَوادِّية لأنطوني تابييس لأول مرة، ثم تنظير الآرت بوفيرا والفن المُتَصَحِّر وفن البَيْئة ومُجْمَل فنون الوهم البصري (السينيتيك) والمِنِمالية، ترجع بنا إلى دعوة الباوْهاوْس بعَدَم فَصْل النقد عن المختبر الفني وممارسة أساتذتها للكتابة، وعلى رأسهم بول كلي وواسيلي كاندينسكي وشلايمر وبقية المجموعة، وصولا حتى الجيل التالي مثل فيكتور فازاريللي في بودابيست وباريس (تلميذ موهولي ناجي)، نجد أن مكتبته التنظيريَّة أكبر من عدد أعماله الفنية، ثم إن مختبر التواصل بين الضوء والصوت بادر فيه اكسيناكيس (Xenakis) وآغام (Agam) وتاكيس ومورينْتي وسواهم.
في هذا الرُّكام من كُتُب الفنانين نعثر على استثناءات مثل الناقد المُتَنَوِّر بيير ريستاني واغيروغيرا اللَّذان قادا التظاهرات العالمية الكبرى، ثم هربرت ريد. ناهيك في المغرب عن فيلسوف علم الجمال موليم العروسي وبوجمعة أشفري وبنيونس عميروش ونور الدين أفاية. ثم عادل السيوي وشموط وغيرهم. وبالعكس فإن نقاد الصحافة وتسويق صالات العرض، ظلوا يعملون في المجلات الفنية الصحفية يغطون الأحداث الشهرية وبمقتطفات غير متخصِّصَة أو مُقَدِّمات مُبْتَسَرة للكاتالوغات.
إذا قَرَّبْنا مِجْهَرنا التحليلي من تفاصيل أحوال النقد العربي المُتَرَدِّيَّة راهناً، وجدناه مُتَخَلِّفاً (عن التصحيح الأوروبي الذي مَرَّ معنا) قرْناً من الزمان، مسترجعا أمراض وصاية الأدباء للقرن التاسع عشر (محنة صِدام زولا وسيزان)، وتَفَيُّؤ الفنانين المُرْتَبِكين بنُخبَوِيَّة وشهرة الأدباء (بسبب السلطة السياسية للكلمة خاصة في الصحافة). يسيطر بالنتيجة على شتّى المنابر الإعلاميَّة نُقّاد غير متخصِّصين، بما فيهم جامِعِيّاً الذين يتسلَّحون بلقب الدكتوراه المُزيَّفَة، التي تحولت إلى شهادات زور شرفية مُحاباتِيَّة، ومن جامعات مُؤَدْلَجَة في أوروبا الشرقية. أسماء مَفْروضَة تضخَّمَت سُلطتها في غفلة من الزمن على غرار نجوميَّة د. ثروت عكاشة ود. عفيف البهنسي. أي الاعتماد على استباحة المؤلفات الغربيَّة الجادَّة واقتراف أبشع أنواع الانتحال: القَصّ واللَّصْق دون مراجعة، مترجمة بشكل مُشوَّه. ذلك ما يُيرِّر تقصير الفنانين الممارسين على الاطلاع الفني بلغتهم الأم.
بنيونس عميروش: في مقابل هذا التقصير، نجد نخبة من الفنانين الباحثين الذين دأبوا على التَّشَبُّث بلغتهم الأم منذ بدايات الكتابات الأولى حول الفن، كما هو الشأن في مصر وبلدان المشرق العربي على وجه الخصوص، ألم يكن لهؤلاء دورٌ فَعّالٌ في خلق خطاب تشكيلي مُثْمِر، ومن ثَمَّ تطوير البحث والنقد الفني العربي بعامَّة؟
أسعد عرابي: من الضَّروري تَجَنُّب التعميم، لدينا نُقّادٌ (وحتّى أن بعضهم كُتّاب مَقالة أو شعراء وبَحّاثة نَظريّين) مُتنوِّرين لا يُنْكَر فضلهم، خاصّة وأنهم متعدِّدو الثقافة وبالغو الحساسية التشكيليَّة، بعضهم أثَّرَت على شعرهم، في مقدمتهم بلند الحيْدري (الشاعر التشكيلي)، والباحث والشاعر اللبناني عيسى مخلوف (يكتب بلُغَتَيْن) ثم عباس بيضون وأحمد بزون، كما برز في المُحترَف السوري سعد القاسم وعبد الرزاق معاذ وغازي عانا ومحمود شاهين، وكذلك سمير غريب من مصر وراشد عيسى من فلسطين وعلي اللّواتي من تونس. ولعل من ألمع هؤلاء إثنان يدينان باليهوديَّة: جوزيف طراب يكتب باللغتَيْن في لبنان وإدمون عمران المليح في المغرب.
من حسن الحظ أنه (في بحر العقد الأخير) يتضاعف العدد كل يوم من الفنانين الممارسين لمهنتهم، ولِحَقِّهِم في التعبير عن فكرهم دراسة وبحثاً، يملكون بالتدريج عُدَّة الكتابة في العربية أو الفرنسية (أو حتى الإنجليزية).
قد تكون مصر سبّاقَة في هذا المجال خاصة عبر ندوات بينالي القاهرة؛ أو النشاط الجامعي والاجتماعي سواء في القطاع العام أم الخاص، (وزارة الثقافة والمتحف ودار الأوبيرا).
ابتدأ هذا النشاط إثر تأسيس جماعة "السوريالية"، لذلك يؤكد أندريه بريتون أن "للسوريالية جناحان واحد في باريس والثاني في القاهرة". نلاحظ أن أعضاء هذه المجموعة جلهم يمارسون هذا النشاط الإبداعي المزدوج: الفن التشكيلي والكتابي (بما فيه من المداخلات النظرية والإعلامية والجامعية والصحفيَّة وتأليف الكتب). من هؤلاء "جماعة الفن والحرية": رمسيس يونان، وكامل التلمساني وسمير رافع، إضافة إلى الناقد جورج حنين. تأثر بهم عبد الهادي الجزار وقبله حامد ندى، وبنسبة ما بتجهيزات النحات الإسكندراني ثروت البحر، وزميله في نفس المدينة الدّاوستاشي.
تَرَسَّخ هذا النشاط الإبداعي المزدوج مع عروض وندوات "بينالي القاهرة" بصفته المحلية المصرية والعربية والعالمية. برز نقديا على منصات دراساته ومحاضراته ومُحاوَراته وكتاباته فنانون مثقفون، في مقدمتهم مسؤول البينالي الفنان د. أحمد نوار وزميله د. الرزاز، وخاصة مسؤول الندوات الموازية أحمد فؤاد سليم، ناهيك عن النشاط الفِكري والطِّباعي المُتَقَدِّم لعادل السّيوي ونشاطه الميداني التنظيمي مع الناقدة المرحومة فاطمة. دون أن ننسى النشاط النقدي الكثيف بما فيه مؤلفاته للفنّان عز الدين نجيب.
يتوازى مع هذا النشاط المزدوج العديد من الأسماء في لبنان وسوريا. على غرار سمير صايغ وفيصل سلطان وأسعد عرابي وإميل منعم (لبنان). والنشاط النظري في المعاهد الفنية (بما فيه الجامعة الأمريكية): محمد الرواس وأمين الباشا وحسين ماضي ورفيق شرف وعلي شمس وغيرهم.
يتمركز هذا النشاط التَّوْأَمي (البرزخي) في سوريا عن طريق كلية الفنون الجميلة ووزارة الثقافة، ومطبوعاتها المتعددة برمزها التَّعَدُّدي فاتح المدرِّس الذي يملك حتى آثارا أدبية مثل قصة "عود النَّعناع"؛ وما تفرزه قريحَتُه من حِكَم نقدية وجودية وعبثية، على جدران مُحتًرَفه، مُلْتَقى المثقفين التشكيليين وسواهم. من أبرز هؤلاء بشّار العيسى وعصام درويش وسعد القاسم وغازي عانا، إضافة إلى الباحث الأكاديمي التَّعدُّدي عبد الرزاق معاذ وعز الدين شموط ومحمود شاهين ومحمد عمران وبطرس المعري ونور أصيله وعبد الله السيد، نموذجهم عالم الجمال البالغ التأثير محمود حوا. لعل أبرز الجماعات الفنية هم "جماعة العشرة" وما أثاروه من جدل ثقافي تشكيلي بعد هزيمة 1967م، تزامن معهم في العراق تنظيرات فناني "جماعة الرؤيا الجديدة" (ضياء العزاوي وعلي طالب ودحزون). سبقهم "جماعة البعد الواحد" من الرواد جواد سليم وشاكر حسن آل سعيد وتلميذه في فرنسا مهدي مطشر. ثم هناك د. سمير تريكي، ثم الهاني والفخفاخ (تونس). محمد المليحي في المغرب، وعبد الرحمن سليمان وعاشور (السعودية).
لا شك بأن هناك أسماء كثيرة انزلقت من الذاكرة دون قصد. قد نعوضها في المستقبل.