
محمود السعدنى وشقيقه الفنان صلاح السعدنى
15 عامًا على رحيل محمود السعدني «الولد الشقي»
الثلاثاء 29-04-2025م- كتب: لوسي عوض
الولد الشقى اسم ووصف اختاره لنفسه الكاتب الساخر محمود السعدنى، كما اختاره ليكون عنوانًا لسيرته الذاتية، التى صدرت فى ستة أجزاء، كان الأول والثانى تحت عنوان «الولد الشقى»، والثالث بعنوان «الولد الشقى فى السجن»، أما الرابع فكان بعنوان «الولد الشقى فى المنفى»، فيما كان الجزء الخامس بعنوان «الطريق إلى زمش»، وكان الجزء السادس بعنوان «ملاعيب الولد الشقى»، ومحمود السعدنى هو عميد ظرفاء العصر، وأحد أقطاب الكتابة الساخرة فى مصر، غير أنه فى نفس الوقت كاتب رفيع فى مجال الذكريات والتاريخ، ونذكر له كتابه البديع ألحان السماء، الذى يعد أول وأدق تاريخ لنخبة من قارئى القرآن وأقطاب التواشيح الدينية.
وعلى الرغم من رحيله عن دنيانا منذ خمسة عشر عاماً، حيث غادرنا فى الرابع من مايو ٢٠١٠ سيبقى الكاتب الكبير «محمود السعدنى» متربعاً على عرش الكتابة الساخرة، ظاهرة نادرة فى الصحافة المصرية عموماً وفى الكتابة الساخرة على وجه الخصوص، بل ويُعد «السعدنى» أحد أعظم الحكائين فى تاريخ مصر المعاصر يمتاز أسلوبه بخفة ظله، والتخلى عن البلاغة التقليدية ونحت قاموس جديد من الألفاظ التى تجمع بين الفصحى والعامية المصرية. هو امتداد فعلى لجيل الرواد من الكتاب الساخرين على رأسهم يعقوب صنّوع، عبد الله النديم وبيرم التونسى وغيرهم. «محمود السعدنى» انحاز فى كتاباته لبسطاء مصر وحرافيشها، وكان بالفعل أقوى متحدث عنهم بلسان جرىء وسليط، وهو ما عرضه لكثير من المحن والشدائد والأزمات وللسجن والاعتقال أكثر من مرة. العجيب والمدهش حقا وما ينفرد به السعدنى لم يبتعد أبدا عن قدرته على الابتسامة والسخرية من خلف أسوار السجون.

رحل «الولد الشقى» تاركًا وراءه إرثًا أدبيًا ضخمًا من المقالات والكتب والروايات، أهم كتبه فى مجال الكتابة الجادة كتابه «ألحان السماء» دراسة بديعة عن عظماء المقرئين فى مصر، ودراسته الجادة عن النكتة المصرية وظرفاء مصر من «عبدالله النديم» حتى «كامل الشناوى» التى تناولها فى كتابه «المضحكون»، حيث اكتشف أن أغلب هؤلاء الظرفاء قد اشتغلوا بالسياسة، وكانت النكتة سلاحا من أسلحتهم، كما كتب العديد من المسرحيات والقصص القصيرة «مسافر على الرصيف»، و«الموكوس فى بلاد الفلوس»، و«وداعًا للطواجن»، و«رحلات ابن عطوطة»، و«أمريكا يا ويكا»، و«حمار من الشرق»، و«قهوة كتكوت» وغيرها الكثير.
جسدت بعض مؤلفاته سيرته ومسيرته المهنية، مثل مذكراته التى صدرت بعنوان «الولد الشقى» وهى تجمع بين اليوميات والمغامرات الصحفية والمآزق الشخصية، وذكر فى مقدمته: على هذه الصفحات ستقرأ ما يسميه البعض «قصة حياتى»، ولكنى أسميها «أخطاء حياتى».. سرد فيها طفولته وصباه فى الجيزة قصة بداياته مع الصحافة واعتقاله وشخصيات عرفها فى السجن، إلى قصة منفاه بالكامل.
وعندما تقرأ تجربة «السعدنى» فى سجون عبدالناصر والسادات، فلن تجد البكاء والنواح والعويل، بل ستقرأ فصولا وصفحات من وطنية، إنه يعترف ببساطة مذهلة «هذه الفترة التى قضيتها فى سجن الواحات وسجن القلعة وسجن الفيوم كانت من أخصب فترات حياتى، تعرفت فيها على تيار سياسى كان له وجود فى الساحة المصرية واكتشفت وسط هذا التيار مجموعة لآلئ كان يمكن أن يكون لها شأن كبير فى مصر لولا اهتمامها بالعمل السياسى وإصرارها على أن تقول كلمتها رغم كل الظروف». كان ساخرا بالفطرة، فحتى مع الجلادين فى المعتقل كان يبدد الصرامة على وجوههم بكلماته العفوية التى لا يقصد بها إضحال.. يتجلى هذا بوضوع فى أبرز أعماله فى أدب السجون، حيث مزج بين السخرية والواقع المرير فى كتابه «الطريق إلى زمش» استعرض فيه محمود السعدنى رحلة الضنى والعذاب وتجربة اعتقاله فى سجن القلعة ١٩٥٩، كما يشير عنوان الكتاب إلى تنظيم سرى داخل السجن يُدعى «زمش»، وهو اختصار لعبارة «زى ما أنت شايف».

قال السعدنى إن المعتقلين قاموا بعمل تنظيم داخل المعتقل لضمان حياة أفضل كان تنظيم «زمش» هو الحل لمواجهة حالة عدم الانتماء التى أوقعتنا فى ورطة داخل سجن الواحات. كان اسم تنظيمنا الذى اهتديت إليه هو على وجه التحديد (زى ما أنت شايف) وأخذت الحروف الأولى من الكلمات الثلاث (ز. م. ش). ومن الطرائف التى ذكرها حوار له وزميله المعتقل الدكتور لويس عوض ودار الحوار التالى بينهما: السعدنى: ما رأيك فى المحنة التى عصفت بنا؟، لويس: ما تخافشى لازم نخرج بعد بكرة السعدنى: أنت متأكد؟ لويس: هابيوس كوربوس. السعدنى: لكن هو اللى قالك بنفسه؟. لويس: هو مين دا؟ السعدنى: هابيوس كوربوس، مش هو لواء فى المباحث. لويس: أنا مبعرفش مباحث ولا أعرف الناس فى المباحث. السعدنى: مش أنت اللى قلت هابيوس كاربوس قالك لازم نخرج بكرة. لويس: هابيوس كاربوس دا، يا جاهل، قانون رومانى قديم. السعدنى: قانون رومانى، طيب مالنا إحنا ومال القانون الرومانى داه. لويس: القانون داه بيقول ما يمكنش حد يقبض على مواطن أكثر من ثلاثة أيام، بعدها لازم يظهر المواطن، إما أمام المحكمة أو فى الشارع. السعدنى: وأنت مصدق الحكاية دى. لويس: طبعا. السعدنى: تصدق بالله لو هابيوس كوربوس جه هنا، هيحبسوه معنا، وهياكل ضرب ماكلوش حرامى فى مولد، هابيوس كوربوس مين يا عمنا، إن كان اعتمادك على هابيوس كوربوس دا، يبقى مش هنخرج من هنا غير يوم القيامة.
من زمن عبد الناصر إلى مراكز القوى لم يسلم «الولد الشقى» من الاعتقال، رغم أنه كان عضوا فى تنظيم «طليعة الاشتراكيين» عن محافظة الجيزة، وهو التنظيم السرى الذى أسسه عبد الناصر، وعضو اللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكى.. وقضى سنتين من حياته فى السجون دون أن توجه له تهم محددة. حيث كان «السعدنى» فى مهمة صحفية بسوريا وقبل وحدة مصر وسوريا وقبل مغادرته تسلم رسالة مغلقة من أعضاء الحزب الشيوعى السورى وطلبوا توصيلها للرئيس جمال عبد الناصر. بعد عودة محمود السعدنى لمصر قام بتسليم الرسالة المغلقة لمحمد أنور السادات دون أن يعلم ما تحتويه لجمال عبد الناصر. وعندما فتحت إذا بها تحمل تهديدًا على الفور تم إلقاء القبض على محمود السعدنى وتم سجنه لما يقرب من عامين ثم تم الإفراج عنه فعاد للعمل فى مجلة روز اليوسف التى تم تأميمها ثم تولى محمود السعدنى رئاسة تحرير مجلة صباح الخير.

أما غضب أنور السادات عليه فقد بدأ فى مرحلة مبكرة، حيث فصل من عمله فى جريدة الجمهورية «بسبب نكتة أطلقها على السادات» فى قضية «١٥ مايو ١٩٧١»، والتى شملت العديد من كبار المسؤولين الذين عملوا فى ظل حكم عبدالناصر، تم اعتقال شعراوى جمعة وسامى شرف ومحمود فوزى ومحمود السعدنى وغيرهم ثم تقديمهم للمحاكمة بتهمة محاولة الانقلاب. حاول الرئيس الليبيى معمر القذافى التوسط لمحمود السعدنى عند الرئيس محمد أنور السادات ولكنه رفض الوساطة بقوله: إن السعدنى قد أطلق النكات علّى وعلى أهل بيتى.. جيهان السادات.. ويجب أن يتم تأديبه ولن أفرط فى عقابه. ثم فرضت قيود على كتاباته فى عهد السادات، فغادر مصر وتنقل بين بيروت وبغداد والكويت والإمارات العربية، ثم لندن التى أصدر منها مجلة «٢٣ يوليو» التى كان يدافع فيها عن نظام حكم عبد الناصر. وبعد اغتيال السادات عاد السعدنى إلى مصر، وتابع الكتابة إلى أن اضطر إلى الاعتزال بسبب المرض عام ٢٠٠٦.
ولد الكاتب الكبير محمود عثمان إبراهيم السعدنى فى ٢٠ نوفمبر ١٩٢٧ فى محافظة المنوفية، حصل على الشهادة الابتدائية من مدرسة الجيزة، ثم حصل على الثانوية من مدرسة المعهد العلمى الثانوية بالقاهرة. وهو الشقيق الأكبر للفنان صلاح السعدنى، حيث تقلد عددا من المناصب فى تلك المهنة، حيث عمل فى مجلة الكشكول، التى أصدرها مأمون الشناوى، حتى أغلقت، والمصرى ودار الهلال، وبعد ثورة ١٩٥٢ عمل بجريدة الجمهورية، ثم محررا بمجلة روز اليوسف،، كما تولى رئاسة تحريرِ مجلة «صباح الخير». كما شارك فى تحرير وتأسيس عدد من الصحف فى مصر وخارجها. وعاش «السعدنى» حياة حافلة بالكتابة الصحفية والإبداعية، إلى أن توفى فى ٤ مايو ٢٠١٠ عن عمر يناهز ٨٢ عاماً إثر أزمة قلبية حادة، تاركاً إرثا من الكتابة والأعمال الأدبية والمسرحية أثرى بها المكتبة المصرية والعربية، إرثا من الأعمال المبهجة والساخرة المرة.