"النزيل بمعماره في التيه".. تجليات المنفى والغياب كما يصورها خضر سلفيج
شاعر سوري يخوض رحلة صوفية معتمدا قصائد شعرية تطوف بين حطام الذاكرة وتفاصيل الغياب.
الثلاثاء 2025/04/22
ShareWhatsAppTwitterFacebook

المنفى حالة من ضياع لامتناه (لوحة أسعد فرزات)
فيينا - يخوض الشاعر السوري خضر سلفيج رحلة صوفية في عوالم المنفى الداخلي عبر مجموعته الشعرية الجديدة التي صدرت عن دار لاماسو للنشر، في السويد، بعنوان “النزيل بمعماره في التيه”، وتضم 80 قصيدة موزعة على 125 صفحة، وتقدّم مشهدا شعريا مرهفا يطوف بين حطام الذاكرة وتفاصيل الغياب.
سلفيج، ابن قرية تل أفندي في سوريا، الذي يعيش في المهجر منذ عقود، يبث في هذه المجموعة نبرة من الحزن الوجودي، حيث تُقابل الذات الشاعرية الغربة والضياع بأسلوب سردي شاعري لا يتردد في الولوج إلى أعماق الروح الإنسانية. وتُعيد قصائد المجموعة تشكيل الألم عبر صور شعرية مكثفة تعكس الجروح النفسية التي يتركها المنفى، ليس كحالة جغرافية فحسب، بل كظرف وجودي لا يمكن الفكاك منه.
تبدأ المجموعة بمشهد “النزيل في معماره”، الذي يظهر فيه الشاعر كمن يواجه قسوة فقدان الوطن والمكان معا، ويسيطر على النصوص شعور كبير بالتيه والضياع. فالشاعر لا يكتب في هذه المجموعة عن المنفى بشكل تقليدي، بل يتعامل معه باعتباره حالة عقلية ونفسية، ليغدو المنفى هنا أكثر من مجرد مسافة جغرافية.
يقول الشاعر في إحدى قصائده:
إذا قتلتَ قلبي، قتلتَ الطريقَ،
لا تبتعدْ، فمن سيحميني إذا غبتَ عن شغفي وموتي؟
هذه الأبيات التي تتميز بالرصانة والتركيب المعقد، تتقاطع مع مفهوم المنفى كفقدان داخلي عميق، حيث إن الرحيل عن الوطن ليس مجرد مغادرة مكان، بل غياب عن الذات وعجز عن التواصل مع العالم حولها.
القصائد في المجموعة تتراوح بين التأمل الفلسفي والتعالي الروحي، وهي تُظهر الشاعر كمن يطرح الأسئلة الكبرى حول العزلة والموت والوجود. فمن خلال صور متعددة مثل “جثة المنفى” و”العراف الأعمى”، يمزج سلفيج بين أسطورة الشخصيات التي تواجه الألم وذكريات الأمكنة، وبين الفكرة المترسخة في الذهن بأن الغربة قد تسرق أكثر من الأوطان.
قصائد تُعيد تشكيل الألم عبر صور مكثفة تعكس الجروح النفسية التي يتركها المنفى كظرف وجودي لا فكاك منه
كما في قصيدة “العراف الأعمى”، حيث يقول:
العراف الأعمى، يأتي دائماً في المشهد الأخير،
يلقي بكلماته ويمضي،
لكنه الآن يتمرد على الدور، يتلو علينا وصاياه.
هنا نجد الشاعر في حالة من التمرد على الواقع، وهو يُعبّر عن إحساسه بالعجز التام في مواجهة الواقع الغريب والمرير، ولكنه لا يكتفي بالشعور السلبي بل يحاول أن يحوّله إلى حالة من التأمل والمقاومة الداخلية. إن قصائد سلفيج ليست مجرد تعبير عن الألم، بل هي دعوة إلى التأمل في إمكانية تجدد الذات وسط العزلة.
وفي قصيدة أخرى من المجموعة، “موت البحيرة”، يصور الشاعر مشهدا يدمج بين الطبيعة والعاطفة الإنسانية، حيث يقول:
كيف لي أن أقنع البجع بموت البحيرة،
وأنا أرى الزرقة تودع عينيه، الآن،
فيما جناحاه ترتبكان بصمت؟
ثمة تناول بين -هنا- لحالة الحزن الذي يكتنف الكائنات المهاجرة، وانعكاس لمشهد الطبيعة المأساوية التي يعيشها المنفي، والذكريات البعيدة التي تظل ترافق الشخص المنفي في صراعه اليومي مع ذاته.
قَبْلَ أَيَّامٍ، رَأَيْتُ وَجْهَ أُمِّي في زِحَامِ سُوقِ الزُّهُورِ،
وَلُذْتُ بِالعِطْرِ مِنَ السُّوقِ.
يَدُها الحَارِسَةُ على عِطْرِ أَبِي
لَمْ يَكُنْ عَلَيَّ أنْ أُحْضِرَ عَرَّافاً لِلكَشْفِ عَمَّا وَرَاءَ العِطْرِ الذي أُحاوِلُ سَبْرَهُ.
أبي، كُنتُ أراهُ يَمُرُّ مِن هُنا، ولا يُريدُ التَّكَلُّمَ معَ أَحدٍ، لأنَّهُ يُرِيدُ الاستمرارَ في أُسْطُورَةِ التِّيهِ إلى أَبَدِ العِطْرِ.
لِكُلِّ حُضْنٍ أَدَوَاتُهُ البُسْتَانِيَّةُ في تَصْلِيحِ أَعْطَالِ القَلْبِ.
أَنا أَعْرِفُ ذلك، وَأُدْرِكُ ما يُحَاوِلُ التَّصْوِيبَ إليهِ.
تِيهُ الأَماكِنِ قد لا يُزَاحِمُكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، لَيْسَ غِيرَةً لِبُلُوغِ مَرَاحِلِ التِّيهِ القُصْوَى في كُلِّ حُضْنٍ، بَلْ كَثِيرٌ مِنَ الحَبَقِ، مَهْمَا اسْتَبْدَلَتِ الجُغْرَافِيَاتُ أَثْوَابَهَا مِنَ الأَمْكِنَةِ.
أَنْتَ مُتَمَرِّنٌ حَيَوِيٌّ على حِبَالِ التِّيهِ، وَلَكِنَّكَ لا تُعَوِّلُ عَلَيْهِ.
مجموعة “النزيل بمعماره في التيه” هي شهادة شعرية حية على تجربة شاعر يحاول أن يكتب في ظل الظلام، يبحث عن النور في بحر من الغيابات. الشاعر خضر سلفيج، من خلال هذه المجموعة، لا يقدم فقط شهادة على الغربة، بل يعبر عن حزن الإنسانية المعاصرة بكل تفاصيلها الحادة.
ومن خلال تنقلاته بين الذات والعالم، وبين الحب والموت، تنسج قصائد سلفيج نسيجا من الجمال الشعري الذي يختلط بالحزن والآمال الضائعة، ليبقى هذا العمل الشعري شاهدا على تجربة فردية فريدة ومرهقة في آن واحد.
ويتميز شعر خضر سلفيج عامة بالعمق الوجداني والتأمل الفلسفي، حيث يعكس معاناة المنفى والشتات، ويُعبّر عن الحنين إلى الوطن والألم الناتج عن التهجير. ومن أبرز أعماله الشعرية قصيدته “الرماد موجز المنافي”، التي نُشرت في مجلة “أوراق” الأدبية، وتُظهر بوضوح تأثير المنفى على الذات الشاعرة.
شاعر سوري يخوض رحلة صوفية معتمدا قصائد شعرية تطوف بين حطام الذاكرة وتفاصيل الغياب.
الثلاثاء 2025/04/22
ShareWhatsAppTwitterFacebook

المنفى حالة من ضياع لامتناه (لوحة أسعد فرزات)
فيينا - يخوض الشاعر السوري خضر سلفيج رحلة صوفية في عوالم المنفى الداخلي عبر مجموعته الشعرية الجديدة التي صدرت عن دار لاماسو للنشر، في السويد، بعنوان “النزيل بمعماره في التيه”، وتضم 80 قصيدة موزعة على 125 صفحة، وتقدّم مشهدا شعريا مرهفا يطوف بين حطام الذاكرة وتفاصيل الغياب.
سلفيج، ابن قرية تل أفندي في سوريا، الذي يعيش في المهجر منذ عقود، يبث في هذه المجموعة نبرة من الحزن الوجودي، حيث تُقابل الذات الشاعرية الغربة والضياع بأسلوب سردي شاعري لا يتردد في الولوج إلى أعماق الروح الإنسانية. وتُعيد قصائد المجموعة تشكيل الألم عبر صور شعرية مكثفة تعكس الجروح النفسية التي يتركها المنفى، ليس كحالة جغرافية فحسب، بل كظرف وجودي لا يمكن الفكاك منه.
تبدأ المجموعة بمشهد “النزيل في معماره”، الذي يظهر فيه الشاعر كمن يواجه قسوة فقدان الوطن والمكان معا، ويسيطر على النصوص شعور كبير بالتيه والضياع. فالشاعر لا يكتب في هذه المجموعة عن المنفى بشكل تقليدي، بل يتعامل معه باعتباره حالة عقلية ونفسية، ليغدو المنفى هنا أكثر من مجرد مسافة جغرافية.
يقول الشاعر في إحدى قصائده:
إذا قتلتَ قلبي، قتلتَ الطريقَ،
لا تبتعدْ، فمن سيحميني إذا غبتَ عن شغفي وموتي؟
هذه الأبيات التي تتميز بالرصانة والتركيب المعقد، تتقاطع مع مفهوم المنفى كفقدان داخلي عميق، حيث إن الرحيل عن الوطن ليس مجرد مغادرة مكان، بل غياب عن الذات وعجز عن التواصل مع العالم حولها.
القصائد في المجموعة تتراوح بين التأمل الفلسفي والتعالي الروحي، وهي تُظهر الشاعر كمن يطرح الأسئلة الكبرى حول العزلة والموت والوجود. فمن خلال صور متعددة مثل “جثة المنفى” و”العراف الأعمى”، يمزج سلفيج بين أسطورة الشخصيات التي تواجه الألم وذكريات الأمكنة، وبين الفكرة المترسخة في الذهن بأن الغربة قد تسرق أكثر من الأوطان.

كما في قصيدة “العراف الأعمى”، حيث يقول:
العراف الأعمى، يأتي دائماً في المشهد الأخير،
يلقي بكلماته ويمضي،
لكنه الآن يتمرد على الدور، يتلو علينا وصاياه.
هنا نجد الشاعر في حالة من التمرد على الواقع، وهو يُعبّر عن إحساسه بالعجز التام في مواجهة الواقع الغريب والمرير، ولكنه لا يكتفي بالشعور السلبي بل يحاول أن يحوّله إلى حالة من التأمل والمقاومة الداخلية. إن قصائد سلفيج ليست مجرد تعبير عن الألم، بل هي دعوة إلى التأمل في إمكانية تجدد الذات وسط العزلة.
وفي قصيدة أخرى من المجموعة، “موت البحيرة”، يصور الشاعر مشهدا يدمج بين الطبيعة والعاطفة الإنسانية، حيث يقول:
كيف لي أن أقنع البجع بموت البحيرة،
وأنا أرى الزرقة تودع عينيه، الآن،
فيما جناحاه ترتبكان بصمت؟
ثمة تناول بين -هنا- لحالة الحزن الذي يكتنف الكائنات المهاجرة، وانعكاس لمشهد الطبيعة المأساوية التي يعيشها المنفي، والذكريات البعيدة التي تظل ترافق الشخص المنفي في صراعه اليومي مع ذاته.
قَبْلَ أَيَّامٍ، رَأَيْتُ وَجْهَ أُمِّي في زِحَامِ سُوقِ الزُّهُورِ،
وَلُذْتُ بِالعِطْرِ مِنَ السُّوقِ.
يَدُها الحَارِسَةُ على عِطْرِ أَبِي
لَمْ يَكُنْ عَلَيَّ أنْ أُحْضِرَ عَرَّافاً لِلكَشْفِ عَمَّا وَرَاءَ العِطْرِ الذي أُحاوِلُ سَبْرَهُ.
أبي، كُنتُ أراهُ يَمُرُّ مِن هُنا، ولا يُريدُ التَّكَلُّمَ معَ أَحدٍ، لأنَّهُ يُرِيدُ الاستمرارَ في أُسْطُورَةِ التِّيهِ إلى أَبَدِ العِطْرِ.
لِكُلِّ حُضْنٍ أَدَوَاتُهُ البُسْتَانِيَّةُ في تَصْلِيحِ أَعْطَالِ القَلْبِ.
أَنا أَعْرِفُ ذلك، وَأُدْرِكُ ما يُحَاوِلُ التَّصْوِيبَ إليهِ.
تِيهُ الأَماكِنِ قد لا يُزَاحِمُكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، لَيْسَ غِيرَةً لِبُلُوغِ مَرَاحِلِ التِّيهِ القُصْوَى في كُلِّ حُضْنٍ، بَلْ كَثِيرٌ مِنَ الحَبَقِ، مَهْمَا اسْتَبْدَلَتِ الجُغْرَافِيَاتُ أَثْوَابَهَا مِنَ الأَمْكِنَةِ.
أَنْتَ مُتَمَرِّنٌ حَيَوِيٌّ على حِبَالِ التِّيهِ، وَلَكِنَّكَ لا تُعَوِّلُ عَلَيْهِ.
مجموعة “النزيل بمعماره في التيه” هي شهادة شعرية حية على تجربة شاعر يحاول أن يكتب في ظل الظلام، يبحث عن النور في بحر من الغيابات. الشاعر خضر سلفيج، من خلال هذه المجموعة، لا يقدم فقط شهادة على الغربة، بل يعبر عن حزن الإنسانية المعاصرة بكل تفاصيلها الحادة.
ومن خلال تنقلاته بين الذات والعالم، وبين الحب والموت، تنسج قصائد سلفيج نسيجا من الجمال الشعري الذي يختلط بالحزن والآمال الضائعة، ليبقى هذا العمل الشعري شاهدا على تجربة فردية فريدة ومرهقة في آن واحد.
ويتميز شعر خضر سلفيج عامة بالعمق الوجداني والتأمل الفلسفي، حيث يعكس معاناة المنفى والشتات، ويُعبّر عن الحنين إلى الوطن والألم الناتج عن التهجير. ومن أبرز أعماله الشعرية قصيدته “الرماد موجز المنافي”، التي نُشرت في مجلة “أوراق” الأدبية، وتُظهر بوضوح تأثير المنفى على الذات الشاعرة.