مسيرة المفكر التربوي البرازيلي: باولو فريري.منظر التعليم بوصفه أداة للتحرر الإجتماعي.

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مسيرة المفكر التربوي البرازيلي: باولو فريري.منظر التعليم بوصفه أداة للتحرر الإجتماعي.


    اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	Screenshot_٢٠٢٥٠٤٢٠-٢٣٥٢٥٠_Facebook.jpg 
مشاهدات:	3 
الحجم:	99.5 كيلوبايت 
الهوية:	260969 باولو فريري:
    1921م- 1997م

    يعدّ المفكر التربوي البرازيلي باولو فريري (1921–1997) أحد أبرز من نظّروا للتعليم بوصفه أداة للتحرر الاجتماعي. انطلق فريري من واقع الفقر والأمية في البرازيل ليطوّر فلسفة تربوية نقدية تهدف إلى تكوين الوعي النقدي لدى المتعلّمين (Conscientization)، أي تنمية إدراكهم لواقعهم الاجتماعي وظروف ظلمهم، بحيث يغدو التعليم عمليّة تحرير وليس مجرد تلقين. وفي الوقت الذي انتقد فيه فريري نموذج التعليم التقليدي "البنكي" الذي يصوّر الطلاب كحوايات فارغة يجري "إيداع" المعرفة فيها، قدّم نموذجًا بديلًا للتعليم التحرري القائم على الحوار والتفكير الناقد والعمل الجماعي. تتقاطع أفكار فريري مع أطروحات مفكرين آخرين عبر التاريخ: فعلى سبيل المثال انتقد جان جاك روسو في "إميل" التربية التقليدية ودعا إلى التربية الطبيعيّة الحرة، وطبّق خليل السكاكيني في فلسطين نموذجًا تربويًا تحرريًا ناقدًا للتعليم التلقيني. كما يمكن رصد صدى فلسفة فريري في نظريّة الهيمنة الثقافية لدى أنطونيو غرامشي (وخاصة مفهوم المثقف العضوي)، وفي تحليل بيير بورديو للعنف الرمزي وإعادة إنتاج الطبقية عبر التعليم، وكذلك في أعمال هنري جيرو الذي طوّر التربية النقدية مستلهمًا فريري. سيستعرض هذا المقال هذه المفاهيم ويربط بينها ضمن إطار فلسفة فريري، من خلال أقسام تشمل: تحليل المفاهيم الرئيسية (الوعي النقدي)، مقارنة بين التعليم البنكي والتحرري، دور الحوار، والأبعاد السياسية والاجتماعية للتربية.

    تحليل المفاهيم: تكوين الوعي النقدي والفعل

    يضع فريري تكوين الوعي النقدي (الوعي بالواقع الاجتماعي والسياسي بشكل نقدي) في صميم عمليته التربوية. يُعرِّف فريري conscientization بأنه عملية تحوّل في وعي الفرد عبر التعرف على التناقضات الاجتماعية والسياسية في واقعه والسعي إلى تغييرها. فالمتعلم يبدأ برؤية نفسه وبيئته بعين نقدية؛ يدرك ظروف القهر أو الظلم التي يعيشها (سواء طبقية أو عرقية أو جندرية وغيرها) ويفهم أنها من صنع البشر وليست قدَرًا حتميًا. هذا الوعي الجديد يحوّل الإنسان من كائن مُستلب خاضع للواقع إلى ذات فاعلة قادرة على تغيير الواقع. لكن الوعي النقدي عند فريري ليس مجرد عملية فكرية تأملية، وإنما يرتبط مباشرة بالفعل؛ أي أنه وعي يتبعه عمل. من هنا ينبثق مفهوم ال (praxis) الذي أكّد عليه فريري، والمقصود به تكامل الفعل والتأمل في آن واحد من أجل تغيير العالم. فالعمل عند فريري هو ممارسة الإنسان لحريته من خلال التفكير النقدي الذي يقود إلى عمل تحرري، والعمل الذي يخضع بدوره للتأمل والنقد بهدف تطوير الوعي. هكذا يتجاوز فريري الثنائية التقليدية بين النظرية والتطبيق، ليصبح الفعل الواعي (المقرون بنظرية نقدية) هو جوهر التربية التحررية.

    يرى فريري أن "كل إنسان مثقف بالفطرة" بمعنى أنه قادر على التفكير والفعل، ولكن الثقافة المهيمنة كثيرًا ما تلقّن الفئات المضطهدة قبول وضعها دون نقد. وهنا يلتقي فريري مع أنطونيو غرامشي في التأكيد على أن الهيمنة ليست قهرًا ماديًا فقط بل هيمنة ثقافية وأيديولوجية؛ إذ تتغلغل قيم وأفكار الطبقة المهيمنة في وعي الجميع وتصبح كأنها "الفطرة" أو "الحس السليم". عملية تكوين الوعي النقدي بهذا المعنى هي كسر لـ"الإجماع" الكاذب الذي تفرضه الهيمنة الثقافية، عبر تفكيك ما اعتُمد كمسلمات وإدراك أنها أدوات سيطرة. لذا يمكن القول إن conscientization لدى فريري هو عملية نزع القناع عن الواقع لكشف علاقات القوة الكامنة فيه، ما يمكّن المضطهدين من استعادة “وعيهم الحقيقي” بوصفهم بشرًا قادرين على التغيير.

    التعليم البنكي مقابل التعليم التحرري

    نقدَ فريري النموذج التعليمي السائد واصفًا إياه بـنموذج التعليم البنكي. في هذا النموذج يقوم المعلم بدور المودِع الذي يملأ عقول الطلاب بمعلومات جاهزة، ويتعامل مع المعرفة كمحتوى ثابت يُنقل في اتجاه أحادي من المعلم إلى المتعلم. يفترض هذا النموذج ضمنًا أن الطلاب جهلة تمامًا والمعلم عالم بكل شيء، مما يرسخ علاقة عدم تكافؤ بين الطرفين. عدد فريري مظاهر هذا النموذج: فالمعلم يتكلم والطلاب يستمعون بصمت، المعلم يفكّر والطلاب مجرد موضوع للتفكير، المعلم يقرر والطلاب ينفذون، المعلم هو الذات الفاعلة في العملية التعليمية والطلبة مجرد أشياء. في ظل هذا الوضع يصبح التعليم فعل تلقين يقتل الإبداع ويحيل الطلاب إلى حافظات أوعية للمعلومات. والأخطر أن هذا النموذج يعطّل قدرة الطلاب على التفكير النقدي؛ فكلما كثّف الطلاب جهدهم في حفظ الودائع المعرفية الملقاة إليهم، قلّت فرص تطويرهم لوعي نقدي تجاه العالم. إن التربية البنكية في جوهرها تطبع الأفراد على التأقلم مع الواقع القائم بدلًا من السعي لتغييره. من هنا اعتبر فريري أن التعليم البنكي أداة بيد القوى المهيمنة لإدامة الوضع القائم؛ فهو "يخدّر" وعي الطلاب ويحولهم إلى كائنات قابلة للتكيف والخضوع، مما يخدم مصالح الفئات المسيطرة الذين لا يريدون انكشاف حقائق الظلم أو تحفيز أي وعي نقدي يهدد سلطتهم. وكما يقول فريري بمجاز إن التعليم البنكي أشبه ما يكون بفعل "نكروفِلي" (عشق للأموات)، لأنه يتعامل مع المعرفة كمادة ميتة، ويحوّل المتعلمين إلى أشياء لا حياة فيها.

    في المقابل، طرح فريري نموذج التعليم التحرري الذي يُعرف أيضًا بـالتعليم القائم على طرح المشكلات (Problem-Posing Education). يرى فريري أن التربية الحقيقية يجب أن تبدأ من حل التناقض بين المعلم والطالب، عبر إقامة شراكة متكافئة يصبح فيها كلاهما معلمًا ومتعلمًا في الوقت نفسه. في الصف التحرري تهدم الوضعية العمودية القائمة على الأمر والطاعة، ليحل محلها وضع أفقي يشارك فيه الجميع في الحوار والتفكير. المعلم التحرري لم يعد ذلك الذي "يعرف كل شيء" ويملي المعرفة، بل أصبح مُيَسِّرًا ومنظّمًا لحوار يساهم فيه الطلاب بفعالية. المعلم يتعلم من الطلاب بقدر ما يعلّمهم، والطلاب يعلّمون بقدر ما يتعلمون؛ الجميع شركاء في صنع المعرفة وليسوا مجرد مستقبلين لها. يعتمد هذا النموذج على طرح مشكلات واقعية من حياة المتعلمين لتكون موضوعًا للنقاش، عوضًا عن النهج المفروض من فوق بلا تشاور. هكذا يصبح التعليم عملية بحث واكتشاف مشتركة؛ حيث يتعاون المعلم والمتعلمون في استكشاف الواقع وطرح الأسئلة ومحاولة إيجاد الإجابات عبر التفكير الجماعي. المعرفة في هذا السياق ليست حزمة معلومات جاهزة، وإنما هي وعي نقدي متجدد ينشأ من التفاعل مع العالم وفهمه من أجل تغييره. وكما يؤكد فريري، "التعليم التحرري فعل معرفي تاملي، Acts of cognition، وليس مجرد نقل للمعلومات". إنه تعليم يستفز الوعي عوضًا عن أن يخدّره؛ فبينما يسعى التعليم البنكي إلى إبقاء الوعي مغمورًا تحت رواسب المعلومات الجامدة، فإن التعليم التحرري يعمل على إيقاظ الوعي ودفعه إلى معايشة الواقع والتدخل النقدي فيه.

    لقد سبق فريري في نقد التعليم التلقيني نخبةٌ من المفكرين والمربين. فعلى سبيل المثال، هاجم جان جاك روسو (1778-1712) في القرن الثامن عشر الأسلوب التربوي الذي كان سائدًا في أوروبا والقائم على التلقين الصارم للأطفال ضمن بيئة مغلقة صارمة. في كتابه "إميل أو في التربية" رسم روسو ملامح تربية طبيعية تحترم براءة الطفل وحريته، وتجعله يتعلم عبر التجربة والاحتكاك بالعالم بدلًا من حشو ذهنه بالمعلومات. يقول روسو إن على الطفل أن "يتعلّم من كتاب التجربة لا من الكتب المدرسية؛ وأن يستقي معرفته من الطبيعة والواقع المحسوس بدلًا من الخضوع لأوامر المجتمع". هذا التصور يتقاطع مع رؤية فريري من زاوية رفض كلاهما لفكرة الطفل/الطالب السلبي المتلقّي. فروسو كما فريري أراد متعلمًا نشطًا يبني معرفته بنفسه في سياق حياته الواقعية، لا متعلمًا خانعًا يتم تلقينه قسرًا. كذلك نجد صدى مبكرًا للتعليم التحرري عند خليل السكاكيني (1953-1878) في فلسطين. فقد انتقد السكاكيني مطلع القرن العشرين المناهج التقليدية في مدارس القدس التي كانت ترتكز على الاستظهار العقيم والعقاب البدني وانعدام صلة التعليم بحياة الطلبة. استقال السكاكيني من المدارس التبشيرية التي عمل بها وأسس عام 1909 مدرسة أهلية أسماها المدرسة الدستورية لتحقيق رؤيته التربوية. اعتمد في مدرسته منهجًا تقدميًا غير مسبوق في المنطقة آنذاك: ألغى نظام العقاب البدني والجوائز والمراتب، وركز على الموسيقى والرياضة والنشاط الحر كجزء من التربية. كما جعل اللغة العربية (لغة الطلاب الأم) لغة التعليم ساعيًا لربط التعليم بهوية الطلاب وثقافتهم. كان شعار السكاكيني أن الطالب إنسان يجب أن يُعامل بكرامة ويُمنح حرية التفكير، وليس وعاءً يُحشى بالمعلومات. وقد طبّق عمليًا مبدأ التعليم بالحوار والمشاركة، فنجد تلاميذه يذكرون كيف كان يشركهم بقصص وحوارات شيقة بدلًا من تلقين قواعد نحو جافّة، مما ولّد لديهم شغفًا بالتعلم لم يألفوه مع غيره. هذه التجربة الرائدة في فلسطين مثّلت تطبيقًا مبكرًا للتعلم التحرري وسبقت فلسفة فريري، من حيث رفض السلطة التربوية القمعية وإعلاء شأن حرية الطالب وربط التعليم بقضايا المجتمع (نادى السكاكيني آنذاك بتوظيف التعليم في النهضة الوطنية ومقاومة الخرافات والجهل في المجتمع). وعليه، يُلاحظ أن نموذج فريري التحرري له جذوره التاريخية والفكرية في رؤى تربوية سبقت زمنه، إلا أن فريري امتاز بمنحه هذا النموذج أساسًا فلسفيًا ناقدًا للظلم الاجتماعي وبربطه المباشر بوعي الطبقات المقهورة.

    دور الحوار في العملية التعليمية

    يمثّل الحوار (Dialogue) حجر الزاوية في التربية التحررية لدى فريري. فخلافًا للتعليم البنكي الذي يتسم بخطاب أحادي الاتجاه من المعلم إلى الطالب، يؤكد فريري أن التعلم الحقيقي ينبثق من التفاعل التحاوري بين جميع أطراف العملية التعليمية. الحوار عند فريري ليس مجرد تقنية تواصلية، بل هو منهج تربوي تحرري يقوم على احترام متبادل بين المعلم والمتعلم، وعلى إيمان بأن الحقيقة ليست حكرًا على أحد بل تتكشف من خلال البحث الجماعي. في الوضع الحواري يطرح المعلم أسئلة بدلاً من إعطاء إجابات جاهزة، ويُنصت لخبرات الطلاب ومعرفتهم الكامنة، ويشجّعهم على التعبير والنقد. هكذا يصبح الطلاب محققين مشاركين في المعرفة، وتتغير علاقتهم باللغة والمعرفة من التلقي السلبي إلى الاستخدام النقدي الخلاق. يؤكد فريري أن الحوار شرط لا غنى عنه لتنمية التفكير النقدي؛ فبالنقاش وتبادل الأفكار تنمو القدرة على التحليل والمقارنة واكتشاف الترابطات في الواقع. كما أن الحوار يُعيد للمتعلمين ثقتهم بأنفسهم وبإنسانيتهم، إذ يشعرون بأن أصواتهم مسموعة وقيمتهم معترف بها، وهذا بخلاف التعليم السلطوي الذي يلقّنهم الصمت والخضوع. ومن منظور فريري، الحوار فعل تحرري بحد ذاته لأنه ينطوي على الحب والثقة بالإنسان؛ فلكي أحاور شخصًا ينبغي أن أؤمن بقدراته الإنسانية وأن أكون مستعدًا لأتعلم منه مثلما أعلّمه. بهذا المعنى يصبح المعلم والطالب في الحوار "رفيقا درب" نحو الحقيقة، يخطئان ويصوّبان لبعضهما البعض ويتشاركان في النمو.

    والتواصل الحواري الذي دعا إليه فريري يجد امتدادًا في أعمال مفكرين آخرين في التربية. فالمربي الفلسطيني خليل السكاكيني، على سبيل المثال، جسّد في فصوله الدراسية روح الحوار باحترامه آراء تلاميذه وتشجيعهم على إبداء ملاحظاتهم، وابتعاده عن أسلوب الترهيب. وقد شهد أحد طلابه (واصف جوهرية) بأن دروس السكاكيني كانت أقرب إلى حوار قصصي شيّق منها إلى تلقين، وأن التلاميذ كانوا يتفاعلون معه بحماس للفهم عبر الأمثلة والحكايات. كذلك، وإن بطريقة مختلفة، اعتمد روسو في إميل على حوار غير مباشر بين الطفل وبيئته: فدور المربي عند روسو أن يهيّئ للطفل فرصة "الحوار مع الطبيعة" ومع تجاربه الخاصة لفهم العالم، بدل أن يلقنه الأوامر. هذه الأمثلة تشير إلى أن الجوهر واحد: التعليم الإنساني تواصل وتفاعل لا تلقين وأوامر. ولعل أعظم تجسيد للحوار التربوي هو ما شهدته "دوائر الثقافة" التي أنشأها فريري لمحو أمية الفلاحين البرازيليين؛ حيث كان يجتمع مع المتعلمين الكبار في حلقات نقاشية ويتبادلون الحديث حول كلمات من واقعهم اليومي ومعانيها، في عملية تعلم جماعي تحاوري رفعت مستوى الوعي لدى الجميع – المعلم والمتعلمين معًا.

    الأبعاد السياسية والاجتماعية للتعليم

    شدد فريري على أن التربية فعل سياسي بامتياز، إما أن تكون أداة لتحرير الإنسان أو أداة لدمجه القهري في نظام الظلم القائم. فهو يرفض فكرة "حيادية" التعليم، مؤكدًا أن كل ممارسة تربوية تنطوي ضمنيًا إما على تكريس الأمر الواقع الاجتماعي أو على تغييره. من هذا المنطلق، رأى فريري أن نموذج التعليم البنكي ليس مجرد مسألة أسلوب تدريس، بل هو جزء من بنية القهر الاجتماعي. فحين يُعامَل الطالب كموضوع سلبي، وحين تُفصل المعرفة المدرسية عن واقع الحياة، يكون الناتج فردًا مغتربًا عن محيطه وعاجزًا عن إدراك ظروفه بوعي نقدي. مثل هذا الفرد سيكون أكثر قابلية للاستسلام للظلم أو تبريره، أي أنه يصبح -من حيث لا يدري- شريكًا في إعادة إنتاج نظام القهر. وهذا ما قصده فريري حين قال إن النظام الظالم يسعى عبر التعليم البنكي إلى "تغيير وعي المضطَهَدين لا واقعهم، ليتمكنوا بسهولة أكبر من التكيف مع ذلك الواقع". بالمقابل، فإن التعليم التحرري عملية تسييس للوعي، بمعنى أنها تربط بين المعرفة والحياة اليومية والسياسة. لقد ربط فريري دومًا بين التعليم وبين الوعي الطبقي والكفاح الجماعي. فحين يصبح للفرد وعي نقدي بطبقته وظروفها، يدرك أن مشكلاته الشخصية ليست معزولة بل هي جزء من نمط ظلم أشمل ينال جماعته الاجتماعية. هذا الإدراك يولّد التضامن الجماعي؛ إذ يكتشف الأفراد المقهورون أن خلاصهم يستوجب عملهم المشترك. وقد هدف فريري من برنامجه لمحو الأمية لدى فقراء البرازيل إلى ما هو أبعد من مجرد تعلم القراءة والكتابة – أراد أن يوقظ وعيهم لواقع استغلالهم ويحفّزهم على تنظيم صفوفهم للمطالبة بحقوقهم. وهذا ما حصل فعلاً؛ إذ بدأت حلقات تعليم الكبار تتحول إلى حلقات نقاش حول مشاكل الفلاحين والعمّال وسبل التغيير، مما أقلق السلطات البرازيلية آنذاك ودفعها لمنع برنامج فريري واعتقاله عام 1964 خوفًا من انتشار "الوعي الخطير" بين الشعب.

    من منظور نظري، يمكن فهم فلسفة فريري السياسية في ضوء مفاهيم طرحها مفكرون أمثال أنطونيو غرامشي (1937-1891). يبيّن غرامشي أن هيمنة الطبقة الحاكمة لا تتحقق بالقوة المباشرة فحسب، بل عبر إقناع بقية المجتمع بقبول قيمها ومعاييرها كأنها بديهية. تلعب المدرسة في رأي غرامشي دورًا مهمًا في هذه الهيمنة الثقافية؛ فهي تُنمي لدى الطلبة ما يعتبره النظام ثقافة عامة أو معرفة مشتركة، لكنها في الحقيقة تعكس ثقافة الطبقة المهيمنة ومصالحها. بهذا المعنى، فإن التعليم البنكي الذي انتقده فريري هو تجسيد لعملية الهيمنة: المعارف التي يلقّنها المعلّم (بوصفه ممثل المؤسسة الرسمية) تحمل ضمنيًا رؤى العالم السائدة التي تخدم بقاء الوضع الطبقي القائم. ولأن الطلاب في هذا النموذج متلقون غير ناقدين، فهم يستدمجون تلك الرؤى في عقولهم لتصبح جزءًا مما يسميه غرامشي "الفكر العام أو الحس المشترك". هكذا يتحول التعليم إلى آلية لإنتاج ما أسماه غرامشي "المثقف التقليدي" الخادم للطبقة المهيمنة. ففي كل طبقة اجتماعية تنشأ مجموعة من "المثقفين العضويين" تعبر عن رؤيتها للعالم وتدافع عن مصالحها؛ والمدرسة التقليدية إحدى السبل التي أنتجت عبرها الطبقات المسيطرة مثقفيها وأدامت هيمنتها. من هنا دعا غرامشي إلى إيجاد مثقفين عضويين منبثقين من الطبقات الكادحة يكونون واعين ومعبّرين عن مصالحها وقادرين على قيادة نضالها الفكري. وهذه الفكرة تتقاطع بقوة مع هدف فريري في تحويل المتعلم المقهور إلى مثقف واعٍ يقرأ واقعه وينقده. إن دائرة الحوار والتثقيف التي يديرها فريري مع الفلاحين يمكن فهمها على أنها محاولة لتخريج مثقفين عضويين من صفوفهم – أي أفراد يمتلكون فهمًا جذريا لقضايا مجتمعهم وقدرة على التواصل والتنظيم، بدلًا من انتظار مثقفين "من الخارج" يقودونهم. وقد أشار هنري جيرو إلى هذا التقارب بوضوح حين قال إن فريري "أدرك، على طريقة غرامشي، أن كل علاقة سيطرة هي علاقة تربوية"؛ فكل هيمنة تعلم المقهور الخضوع بوسائل ثقافية وتربوية، ومن ثم فإن مقاومة الهيمنة لا بد أن تمر أيضًا عبر عملية تربوية مضادة تنشر الوعي النقدي.

    كذلك قدّم عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (2002-1930) تحليلاً يسهم في فهم الدور السياسي للتعليم في إعادة إنتاج الطبقات. رأى بورديو أن النظام التعليمي السائد يمارس نوعًا من "العنف الرمزي" حين يفرض بشكل خفيّ ثقافة الطبقة المهيمنة ورموزها على جميع الطلاب وكأنها الثقافة "الشرعية" الوحيدة. يحدث ذلك بصورة غير مرئية ومن دون إدراك واعٍ من الضحايا؛ إذ يقبل الطلاب من الطبقات الدنيا هذه المعايير المفروضة ويقيسون أنفسهم عليها، مما يؤدي إلى إخفاقهم الدراسي والشعور بالدونية لابتعادهم عن نمط الثقافة المهيمنة. بعبارة أخرى، التعليم التقليدي يحمل انحيازات طبقية مدمرة. فالطالب ذو الخلفية الميسورة (الذي يمتلك ما يسميه بورديو "رأس مال ثقافي" يتوافق مع الثقافة المدرسية) ينجح ويتفوق، بينما يتخلف الطالب الفقير ليس بالضرورة لقصور في ذكائه بل لأن المدرسة لم تعترف برأس ماله الثقافي المختلف واعتبرته جهلًا. هكذا تعيد المدرسة إنتاج الفوارق الطبقية جيلًا بعد جيل تحت ستار الجدارة والاستحقاق. ونقد فريري للتعليم البنكي يلتقي مع طرح بورديو في كونهما يفضحان زيف حيادية المدرسة: فالتلقين الخالي من النقد والذي يتجاهل خلفية المتعلم ومعرفته السابقة هو في الحقيقة آلية لإدامة الهيمنة الاجتماعية عبر إقصاء أصوات المهمّشين. لكن فريري يذهب إلى خطوة أبعد عبر اقتراح بديل تحرري يمكن به كسر دائرة إعادة الإنتاج هذه. فالتعليم الحواري النقدي الذي دعا إليه يفتح فضاءً للاعتراف بتجارب المضطهدين وثقافتهم الغنية، ويعاملها كنقطة انطلاق في عملية التعلم. وقد أصرّ فريري على رد الاعتبار لمعرفة الفقراء وتجاربهم، معتبراً أن لكل ثقافة قيمة ومعنى، وأن على التربية التحررية توظيف لغة المتعلمين وثقافتهم الشعبية كنقطة شروع. هذا التوجّه يعارض جوهريًا ما سماه بورديو العنف الرمزي، لأنه يقلب المعادلة: بدلاً من فرض ثقافة النخبة على الجمهور، يتم الانطلاق من ثقافة الجمهور لبناء معرفة نقدية مشتركة. بذلك يمكن للتعليم أن يصبح قوة لتفكيك اللامساواة عوضًا عن تأبيدها.

    لقد أثّرت فلسفة فريري التحررية في عدد كبير من التربويين حول العالم، وكان من أبرزهم المنظّر الأمريكي الكندي هنري جيرو (ولد عام 1943). يُعدّ جيرو أحد رواد التربية النقدية (Critical Pedagogy) في العصر الحديث، وقد استلهم كثيرًا من أفكار فريري ونقلها إلى سياق المجتمعات الصناعية المتقدمة. وافق جيرو على طرح فريري بأن التعليم لا ينفصل عن السياسة، مضيفًا تحليلاتٍ لموقع التربية في ظل الرأسمالية المتأخرة والثقافة الاستهلاكية. أكد جيرو أن المدارس يجب أن تكون ساحات للديمقراطية والتفكير الحر، لا معامل لإنتاج الامتثال، ودعا المعلمين إلى تبني دور "المثقفين العضويين" أو "المثقفين التحويليين" الذين يعملون على تنمية الوعي النقدي لدى الطلاب ومقاومة الهيمنة الثقافية السائدة. وقد صاغ جيرو مفهوم المعلم كمثقف نقدي ينبغي له أن يشكك في المناهج الرسمية إذا كانت منحازة، وأن يربط التعليم بقضايا العدالة الاجتماعية مثل العنصرية وقضايا النوع الإجتماعي والبيئة وغيرها. كما يُنسب إلى جيرو الفضل في تعميم مصطلح "التربية النقدية" نفسه في ثمانينيات القرن العشرين، حيث دمج أفكار فريري مع نظريات مدرسة فرانكفورت (ماكس هوركهايمر وزملائه) ومع التحليلات الثقافية المعاصرة، لبلورة تيار تربوي نقدي يناهض نزعات الخصخصة والنفعية الضيقة للتعليم. يجادل جيرو بأن رسالة التعليم العليا هي إعداد مواطنين ناقدين قادرين على المشاركة الفاعلة في مجتمع ديمقراطي وتحدي البنى الظالمة. وهذا عين ما سعى إليه فريري في سياق آخر – أي جعل المتعلم فاعلًا اجتماعيًا يستطيع فهم علاقات القوة في مجتمعه ويسعى لتغييرها. وقد أشاد جيرو بإرث فريري مؤكدًا أن فريري "ربط دومًا بين الوعي والمعرفة من جهة والعمل السياسي من جهة أخرى، ورأى أن التربية هي جزء من النضال الأوسع ضد الرأسمالية والسلطوية". وبفضل جهود جيرو ونظرائه، انتشرت مبادئ التربية النقدية في برامج كليات التربية بالجامعات، مما وسّع تأثير أفكار فريري عالميًا حتى بعد وفاته.

    خلاصة القول، إن فلسفة باولو فريري التعليمية تتجاوز حدود قاعة الدرس لتلامس عملية التحول الاجتماعي. فالتعليم عنده ممارسة تحررية أو تدجينٌ سياسي؛ إما أن يحرر العقول وينيرها أو أن يخدّرها ويشكلها وفق مقاسات المنظومة القائمة. وقد قدم فريري إطارًا تربويًا متكاملًا لتحقيق الخيار الأول: بدءًا من تكوين الوعي النقدي عبر الوعي الذي يجمع بين التفكير والفعل، ومرورًا بهدم جدار السلطة الأحادي في الصف عبر الحوار والمشاركة، ووصولًا إلى استثمار التعليم كمنصة لإثارة الأسئلة الاجتماعية الكبرى وتعزيز التضامن الجماعي في وجه الظلم. هذه الرؤية يعضدها إرث مفكرين عالميين: فروسو دعا لتربية طبيعية تحترم فطرة الإنسان الحرة، والسكاكيني طبق تعليمًا تحرريًا في سياق مقاومة الاستعمار والتقليد البالي، وغرامشي كشف دور الفكر في الصراع الطبقي داعيًا لاسترداد المضطهَدين للمعرفة، وبورديو فضح تحيزات المؤسسة التعليمية وحثنا ضمنيًا على البحث عن تعليم أكثر عدالة، وجيرو حمل شعلة فريري إلى ساحات جديدة كالميادين الأكاديمية وحركات الإصلاح التربوي المعاصرة. وحتى يومنا هذا يبقى التعليم التحرري الذي بشّر به فريري وأمثاله مشروعًا راهنًا ما دام الظلم واللامساواة قائمين. فأمام عالمنا اليوم تحديات من قبيل اتساع الفجوات الطبقية وتغلغل ثقافة الاستهلاك وتراجع القيم الإنسانية في العملية التعليمية، مما يجعل الحاجة ماسّة إلى إبقاء جذوة الوعي النقدي مشتعلة. وكما أكد فريري، فإن بناء عالم أكثر عدلًا وإنسانية يبدأ من صف دراسي يُعامل فيه الإنسان كإنسان حر مفكّر. فالتعليم إما أن يكون ممارسة للحرية أو أداة للاضطهاد.

    جميل سالم، التعليم: ممارسة للحرية أم أداة للاضطهاد، ابريل 2025.

    اهم المراجع:
    1. فريري، باولو. تعليم المقهورين. ترجمة يوسف نور عوض. بيروت: دار القلم، 1980.
    2. فريري، باولو. التعليم من أجل الوعي الناقد. ترجمة حامد عمار. القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 2007.
    3. روسو، جان جاك. إميل أو التربية. ترجمة عادل زعيتر. القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1956.
    4. غرامشي، أنطونيو. دفاتر السجن. ترجمة صبا قاسم. بيروت: دار الفارابي، 2010.
    5. بورديو، بيير، وجان كلود باسرون. إعادة الإنتاج: في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم. ترجمة ماهر تريمش. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2007.
    6. عبد الله، غسان. أي تعليم نريد؟ حوار التعليم التحرّري في فلسطين. رام الله: مؤسسة روزا لوكسمبورغ، 2016.
    7. حشوة، ماهر، التربية التحررية النقدية، معهد مواطن جامعة بيرزيت، 2010.
    8. فريري، باولو، مازن الحسيني مترجم. نظرات في تربية المعذبين في الأرض. (رام الله: دار التنوير، 2003).
    9.H. Giroux, "The Kids Aren't Alright: Youth Pedagogy and Cultural Studies" in Fugitive Cultures.
    10. Henry A. Giroux, The New Henry Giroux Reader: The Role of the Public Intellectual in a Time of Tyranny, ed. Jennifer A. Sandlin and Jake Burdick, foreword by Antonia Darder (Gorham, ME: Myers Education Press, 2018).

    اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	Screenshot_٢٠٢٥٠٤٢٠-٢٣٥٢٥٦_Facebook.jpg 
مشاهدات:	4 
الحجم:	78.7 كيلوبايت 
الهوية:	260968
    التعديل الأخير تم بواسطة Rawda Haidar; الساعة 04-21-2025, 12:17 AM.
يعمل...