" عراقية عباءة امي" ديوان للشاعر المغترب الدكتور مسلم الطعان تجربة شعرية بطعم خاص، ونسغ آسر.. كتابة:عقيل هاشم (عباتچ حمره لون الدم شسوه العباه حمره اهي شمس الزمن لوخنجر الحسره... يا دمعة يتيمه أو طاحت أعلى الخد ومو طبع الدموع بساع تتبره...) "قصائد محاوِرة" ديوان شعري جديد بعنوان "عراقية عباءة امي" للشاعر المغترب الدكتور مسلم الطعان والصادر عن منشورات أحمد المالكي للنشر والتوزيع ٢٠٢٤. مايلفت النظر في هذا الديوان صيغة القصيدة المحاوِرة وقد عرفها الشاعر على غلافه الخارجي بأنها (قصيدة مسافاتية اي تتشكل انساقها الايقاعية والصورة الدرامية في مناطق عديدة. انها عمل إبداعي يتشكل من مسافات رؤية متنافرة ومتناغمة في آن. فهي تحاور الآخر عبر آليات الارث الشعبي المؤسطر الذي تجسده محمولاتها اللفظية والشحناتية الايقاعية المنسوجة بنول الإيقاع الشعبي اليومي..) وهذا النوع من النسج الدرامي يضعنا أمام مسألة مايسمى معمارية الشكل الفني والبناء العام للقصيدة، لنجد أنفسنا بمواجهة قصائد تعتمد الأسلبة والنمذجة، وأعني ميل الشاعر إلى أسلوب مسرحة القصيدة، النموذج الذي سوف يطغى على مجمل الديوان الذي ضمنه "٢٢ قصيدة". ( ترانيم الَمعدان.. صاغتها آلاف الاحزان سكبت اورك ماسيها في دن معابدها الأولى اسكر تسكاب بقايا ها.. مدناً نسجت سفر حكايات العشقِ في الدفقِ القادم من قارورة أحلامٍ قدمها كلكامش.... ) هذا التماهي الأسلوبي الذي نهجه الشاعر في صوغ عمله الجديد، بالاتكاء على السمة الغنائية التي رافقت قصائده كلها، كونه شاعر يحسن صياغة مسرحة النص على نحو متمكن وقدير، رافعاً به ، أي شعره إلى طبقات الفن الرفيع. من هنا فهو في هذا الجانب التجريبي نراه يسعى حثيثاً إلى لملمة النبرة النغمية، بعناء جلي، محاولاً من خلالها توسل القصيدة الحداثية. (عمي إمحيسن... شفت اسنينك تشهگْ للرحمن أو تشچي أو غيمة بعينك اتنوح أو تبچي أو گلبك اصفى من البلور عمي إمحيسن... بيني وبينك سبع ابحور... ) وهنا اقول ما اتسمت به هذه النصوص ، هي الرهافة التي يتمتع بها الشاعر والشفافية التي لها أكثر من طريقة في الوصول إلى نصه الشعري والتسرب إليه. نص الشاعر الطعان هو نص مرهف، رشيق، يعتمد على تدفق الحس الصوفي. في هذا الديوان صبّ الشاعر الطعان خلاصة لوعته التعبيرية واللغوية واللفظية، وكذلك خلاصة طرقه الجمالية في توفير النبرة البارعة، ومستلزماتها الموسيقية والإيقاعية الدرامية، تنضاف إليها براعة التلقي المسافاتية. (العراقية گُمر وإنجوم عبايتها حزن وإغيوم العراقية گُمر وانجوم.... تضوي أو ترد الروح ضحكتها العراقية عبايتها شرف للروح ماتنكسر رايتها...) الشاعر د. مسلم الطعان مغترب في منفاه الأسترالي منذ 2005 ، عاش حياة قلقة، طوال مسيرته الحياتية ، لكنها كانت حافلة بالجد والاجتهاد حاصل على شهادة الدكتوراه في الأدب الإنگليزي ، هاجسه الشعر أبدع فيه ، تلك حرفته الكتابية التي بيَّن فيها حجم حنينه للشعر فجعله للأم ثم إلى العراق، قصائد درامية لما تختزنه نفسه من لهب داخلي تفور ناره في الدواخل لتفجّر هذه الطاقة الإنسانية على شكل ينبوع إبداع شعري. كتب في المنفى اغلب نصوصه الشعرية وقدّم رؤيته وسمته العراقية، في سياق لغوي وتعبيري فني نادر وجديد ، حتى مسّنا لهب هذا الإبداع بما وضعه من صوغ شعري مؤثر. ليبدع بعد ذلك في المنفى، فكان الإبداع مضاعفاً وذا حس عال لا يضاهى، فالمنفى يمنح ، الشاعر طاقة روحية ويضاعف الخيال والمجهود الفني، ويراكم اللوعة الباطنية، لتنتج وتكتب جمرتها المتقدة في الأعماق. (رحلوا على ضوء الجراح وودعت خطواتهم ام تحشد صبرها بدروبهم وتدس تحت ثيابهم حرزاً به وهج القبابْ ووصايا مائيةً جادت بها اثداء انهار عِذابْ) هذا الديوان يعتبر إضافة إلى تجربة الشاعر الإبداعية في الكتابة ، ويمكن اعتبارها ضمن مسار القصيدة المعاصرة، بالإستناد إلى مفهوم التجريب الأسلوبي للقصيدة الذي إصطلحه شاعرنا على هذا النوع من الكتابة بالقصيدة المحاوِرة المسافاتية لما تكتنز من حمولات التخاطب اليومي ومسرح الحدث. القصيدة الدرامية حالة إستثنائية في مسار الشعرية المعاصرة، قصيدة ترتقي بالذائقة الجمالية إلى مديات متفردة تشكل تنويعا، وإمتداداً، لذلك المشهد النصّي المتناغم والمتنوع، الذي أرسى دعاماته الجمالية شاعرنا الطعان خلال مسيرته الإبداعية في زمن الفورة الفكرية والسياسية، وتدفق الأسماء والتجارب والأسئلة الثقافية، فقد تقلبت قصائده بين هموم المثقف ، والتجربة الشعرية. (اريد من الحلم شذرة اطرز بيها صوت الريح واريد الناس ترجع للمحنة تخيط اثيابها الكلمات أو تطهر ارواحها الدعوات.. والتسبيح..) ولعل أول ما يسترعي الإنتباه في هذا الديوان هو مزجه الواعي، والخفي، على حد سواء، بين رواسب القصيدة الشعبية والفصحى بمزاوجة درامية ، متمثلا في تخادم جنس القصيدة مع دراما المسرح. وباستحضار بيئة الجنوب الذاكرة الأولى - الغراف - بأمكنته، وأسمائه، ورموزه، وإيحاءاته الغامضة بمصائر الحب . لهذا يمكن اعتبار الشاعر سادن الهم الجنوبي ، وإن تلفّعت نصوص ديوانه بمجازات الحنين المخفية المبثوثة بين التلافيف والحنايا، لا تلبث ان تتخذ لها أبعادا وصورا وإستعارات باهرة عبر التنويعات النصية لتتخطى الأفق الكوني، . الشاعر الطعان ممن أتقنوا الإنفلات من دائرة المفاهيم الثابتة، والمثيرات المكرورة لتفاصيل الإغتراب وفقد السكينة، واللحمة المولدة لها، فإن قصيدة الشاعر لن تبتعد يوما عن مدارات العائلة بمعناها الضيق والواسع معا باحثا عن إمتدادات الفقد العائلي لـ”لأمه”والذي اكسب هذا الفقد دلالات تلك التفاصيل الدرامية المرافقة لتصرف الأبن اتجاه هذا الفقد للأم ، وكيف اختصرت النصوص هذا الكنه الإنساني المؤلم كما جاء تسمية الديوان بصيغته المباشرة. (اعبيد.. هذا الوجع المجنون المتقن كل فنون المعدان الطالع من ماء الهور بصدر... ينشج كالناي المذبوح.. اعبيد... ياجمر جنوب الله.. ) من هنا نفهم كيف ينهض الخطاب الإنساني وبنية العائلة في تلازم رمزي مسترسل، وجدل في المضامين والقيم، ينطوي على ثراء مغر بالاستكشاف، فكلاهما ينهض على أصول، ويسعى إلى إعلان صور، بقدر ما يثوي أسرارا وألغازا؛ لاسيما وأن القصيدة إظهار لوعي ذوات فردية، في تواؤمها مع الأم، وتخليد الأثر. في رحابة ممكنة، تختصر الأم هذا التوق الاجتماعي وقيمه، وتناقضاته الوجودية. ولما كان الديوان حكاية بؤس وسعادة، وموت وحياة، فسرعان ما باتت مداراً لمحاكاة القدر العائلي، إنه القدر الذي جعل الشاعر يسترجع أحلام الطفولة، و هكذا يبدو الشاعر مسكوناً بالشأن العائلي، "حميمية الأم"ومعاناتها. حين يسترسل الشاعر الطعان في تقليب معاني النص، وفخاخه ومزالقه وأوهامه، من موقع الوجود في صلب تجربة نفسية وحياتية مختلفة؛بالطبع سيقدم تلك الأفكار والهواجس في صيغة إلتباسات قرائية شتى؛ لكن المباني التصويرية في النص لا تخرج عن الترسيمات الجمالية لإنفعالاته ورغائبه وصبواته التي تمتد من سبك قصيدته “الدرامية ”، واستبطانها لثناياه، و تلك تجربة شخصية تطل في كل مرة بوجه مختلف، بما هي تنويع على مقامات السيرة الذاتية، وإعادة تأمل لمحطاتها ومساراتها المتحققة والممتنعة لتشكيل المعنى المقصود. من هنا لا يمكن فهم نصوص الشاعر دون الوقوف على فهم “الذات” التي تراوح بين صيغة “الأنا” التي تتلّبس الشاعر تارة، والحوارية ، تارة أخرى، التي بقدر ما تهجّن الأسلوب،تقرّبه من صورة اللغة الاجتماعية، ومساراتها التداولية.. (بين الصمت َالتصخاب غابه أو باب أو حشد أصحاب ماتفهم خطاباتي احاور روحي ياروحي أو تخذلني حواراتي ارد الهث على ذاتي... ) في هذا الديوان حاول الشاعر أن يقنعنا بأنه غير مهووس بالفخامة وبالأفكار الكبيرة بالمعنى الذي يقرن الجدية بمجافاة المتعة، والإيغال في مجاهل “التعقيد”، حيث تنسلخ الكلمة عن خفة الاستعمال، وتكتسي إهابا لفظيا بعيد الغور، و تخلق من الخفة اللفظية بلاغة مؤثرة وماتعة الأعطاف، حيث تتراسل الأحاسيس المتناقضة والتفاصيل اليومية، باعتياديتها وبساطتها أحيانا وفجائيتها أحيانا أخرى، لتعبر عن الحميمية والوحدانية والتيه، والرغبة والعنف والوجدانية ، وكأنها التماعات تبرق كنيازك سحرية. قصائد لوعة تركت أثرها في متلقيها بحيث لايستطيع مغادرتها . بمعنى استطاعت بلورة تجربة شعرية بطعم خاص، ونسغ آسر، في مسار التجريب الشعري العربي المعاصر. إذاً اننا مع شاعرعوّدنا على الجملة النغمية على صعيد التواتر الدرامي، فقصائد الشاعر مسلم الطعان تنافح بقلب محموم لوعة الفقد.
كتابة:عقيل هاشم "عراقية عباءة امي" ديوان للشاعر مسلم الطعان
تقليص
X