فلسفة الوجود في الفكر الفلسفي الإسلامي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • فلسفة الوجود في الفكر الفلسفي الإسلامي

    فلسفة الوجود في الفكر الفلسفي الإسلامي
    "يُعدّ الوجود من أعرف الأشياء وأوضحها وأعمّها، لذلك كثيرًا ما يحار المرء في تعريفه، لأن التعريف اللفظي في واقع أمره ليس تعريفًا حقيقيًا، فهو استبدال كلمة بأخرى. وبما أن الكلمة وجود، فإن تعريف الوجود يعني تعريف الوجود بالوجود، وهذه إشكالية كبيرة تقف حائلًا أمام تعريف الوجود لمن يريد ذلك.

    وقد لجأ الفلاسفة إلى القول بأن الوجود هو ما يمكن أن يُخبر عنه، أو هو الثابت العين، فالوجود قضية بديهية، بل هو من أكثر الأشياء بداهة، بدليل أنه يتمثل لنا دائمًا في كل الأشياء، وهو الرابطة بين الموضوع والمحمول في قولنا: القمر منير، فالرابطة المحذوفة تمثل الوجود، وتقديرها: القمر الموجود منير.

    أما الموجود، فهو ما اتّصف بالوجود، سواء كان الوجود نفسه أو أي شيء آخر. وهناك مفهوم يقترن بالوجود دائمًا في مباحث الفلسفة الإسلامية، وهو مفهوم الماهية. وقد يصل القارئ، بعد الاطلاع على كتب الفلسفة، إلى أنهم يريدون بالماهية الوجود مشخصًا، لذلك قالوا بأن الماهية هي الجواب عن سؤال: (ما هو؟)، ومن هنا قالوا بأن الماهية هي الصفة التي تجعل الموجودات متمايزة ومختلفة. والماهية مفترضة من لدن العقل لغرض التمييز بين الأشياء. وهذا يعني أن للشيء الواحد وجودًا زائد ماهية، كما لو قلنا في جواب: ما الإنسان؟ حيوان ناطق، فهناك رابطة غير ظاهرة في الجملة العربية تُقدّر بمفردة "موجود"، وكأننا نقول: الإنسان حيوان موجود ناطق. فهنا جعلنا له وجودًا، ومن ثم ماهية ظهر فيها للخارج.

    لكن الفكر كعادته لا يكف عن الأسئلة، لذلك راح يسأل عن المائز بين الوجود والماهية، وأيّ منهما هو الأصل؟ بمعنى: هل أن الوجود سابق على الماهية ومصدرٌ لها، أو أن الماهية هي السابقة؟ والمتأمل يجد أن مفهوم الوجود والماهية يدلان على شيء واحد في العالم الخارجي، ويدلان على شيئين في الذهن، فزيد يمثل ماهية لموجود محدد، لكن زيد في الذهن اثنان: فهو موجود يتصف بالوجود، زائد ماهية متمثلة بشخصه. لكن، هل أن ماهية زيد بوصفه إنسانًا شاخصًا هي التي حددت وجود زيد، أو أن صفة الوجود هي من جعلت لزيد وجودًا؟

    وقد شغلت هذه القضية الفيلسوف الإيراني صدر الدين الشيرازي، بعد أن وجد ملامحها عند الفلاسفة قبله، إلى درجة أنه أوقف جلّ فلسفته عليها، ثم أخذت في الاتساع عند تلاميذه ومعارضيه. ومن تتبّع المسألة يجد أن هناك من قال بأصالة الوجود (الشيرازي وتلامذته)، وآخرين قالوا بل الأصالة للماهية (السهروردي)، وطرف ثالث قال بأصالتهما معًا (كمال الحيدري).

    فصدر الدين الشيرازي قال أولًا بأصالة الماهية واعتبارية الوجود، ثم تراجع عن هذه الفكرة وقال بأصالة الوجود واعتبارية الماهية. وقد يُفهم من قول الشيرازي والقائلين بأصالة الوجود أن الموجود في الخارج يمثل مصداقًا لمفهوم الوجود، فالوجود بوصفه مفهومًا هو سابق على ذلك الموجود الذي هو الماهية بوصفه مصداقًا. بمعنى أن الماهية في الخارج تالية للوجود، لأنه لا يُعقل أن يكون التمثل الواقعي للأشياء سابقًا لمفهومها.

    واللافت أن هذه المسألة كُتبت فيها عشرات المجلدات، ويبدو أن غرض الفلاسفة من الإلحاح في شرحها وبسطها كان يهدف من بعيد إلى تعزيز المبدأ الإسلامي في إثبات الوجود المجرّد لله، وإن لم يصرّحوا بذلك أحيانًا، بدليل انتقالهم من هذه القضية إلى قضية أخرى، وهي ما أطلقوا عليه: "تشكّك الوجود وتعدد الماهية"، ويريدون بها أن الوجود واحد في كل الأشياء بدرجات متفاوتة، أما الماهيات فمتعددة وكثيرة. فالإنسان، والقلم، والسرير، ونور الشمس، ونور القمر، تشترك جميعًا في شيء واحد، وهو الوجود، على الرغم من أن هذا الوجود في بعضها أقوى من البعض الآخر، كنور الشمس الذي هو أقوى من نور القمر. لكن الماهيات متعددة بتعددها، فهناك وجود واحد، لكن هناك ماهيات لا حصر لها، وهذا الوجود يتفاوت من الضعيف إلى القوي حتى نصل إلى الوجود الأكمل، وهو الله.

    وتتفرّع من المسألة المتقدمة مسألة أخرى، وهي تقسيم الوجود على مادي ومجرد. ثم إنهم يقصدون بالمادي والمجرد الأساس الذي يكون أصل الوجود منه: هل هو في عالم مجرد (روح، مثلًا) أو مادة (ذرات، مادة متحركة)؟ ولكل طرف حججه في ذلك، منها على سبيل المثال أن الماديين يقولون بأننا يمكن أن نشير إلى جهة وجود العالم ونتلمّسه، وهو خاضع للتبدل والتغيير والحركة، وهذا كله لا ينطبق على الروح، لذلك فإن الأصل هو المادة.

    أما الذين يقولون بالروح، فيعدّون هذه الصفات حجة على بطلان الأصل المادي، فكيف يكون أصل الوجود مادة، وهي خاضعة للتبدل والتغيير والحدوث، ونحن نعرف أن كل متغيّر حادث، وليس قديمًا؟ فالروح هي الأصل. لكن الفلاسفة المسلمين لا يعبّرون عن الموضوع بهذه الطريقة، بل يطلقون على الروح تعبير "واجب الوجود"، وبغية التدليل على وجوبية واجب الوجود، يقسمون الموجودات على: الواجب، والممكن، والممتنع.

    ويريدون بالواجب: ما كانت فيه نسبة المحمول للموضوع لازمة الوجود، لا تقبل الانفصال، كقولنا: الأربعة زوج، فالزوجية لا تنفك بحال عن الأربعة. أما الممتنع، فما كانت نسبة المحمول للموضوع لازمة الانفصال، كقولنا: الخمسة زوج. أما الممكن، فهو الذي يحتمل الأمرين، كقولنا: الرجل قائم، فالقيام بالنسبة للرجل لا يمكن أن يكون واجب التلازم، ولا يمكن أن يكون الانفصال، والعكس صحيح أيضًا.

    وقد وجدوا أن الواجب فيه لحاظان: فهو إما أن يكون واجبًا بنفسه، أو واجبًا بغيره. والأول مثل واجب الوجود أو الله، فهو لا يحتاج لعلّة توجده. والثاني: واجب الوجود بعلة توجده، مثل العالم والإنسان. أما الممتنع، فهو إما ممتنع بذاته، أو ممتنع لعدم وجود علته. فالأول مثل المثلث المربع، والثاني مثل البيت قبل بنيانه. والممكن أيضًا يمكن أن نلحظ فيه أقسامًا، لذلك قسموه على إمكان ذاتي أو خاص، وهو الذي سُلب منه الوجود والعدم، كالإنسان: فهو لا واجب الوجود ولا ضروري العدم."

    د. علي حسين يوسف
يعمل...