?️?️ مراجعة رواية "النباتية" للروائية الكورية الجنوبية "هان كانغ".
الكاتبة الحائزة على جائزة نوبل للأدب 2024.
مرّ وقتٌ طويل (ولايزال يمرّ) ونحن العرب في معزلٍ عن أدب شرق آسيا، فما يصلنا منه لايكاد يشكّل شيئاً أمام الرحلة الأدبية العريقة التي تمضي في تلك البلدان، "هان كانغ" كاتبة كورية جنوبية معروفة في بلدها، أمّا نحن القرّاء العرب فنجهلها ونجهل رفقاء دربها من الأدباء، (وبالطبع هم يجهلون أدبنا وكتّابنا)، وكنا نعتقد حتى وقتٍ قريب أنها كانت تجلس في بيتها بجوار المدفأة، ترفع بصرها بين الحين والآخر لتنظر إلى العصفور الذي اتخذ من نافذتها مقراً له. لم يكن يدرك أحدٌ، ولا حتى العصفور نفسه، أنّ تلك السيدة ذات الشعر الأسود المسبل يمكن أن تصبح ذات يوم حديث العالم.
وبعد الاطلاع على المصادر الموثوقة تبيّن لنا غير ذلك، إنّها أشهر كتاب بلدها وكانت المرشحة الأولى للجائزة، وبحسب بعض الصحف الأدبية الكورية فإنه سيكون من الغريب إن لم تنل "هان كانغ" جائزة نوبل خلال هذا العقد إن أسعفتها صحتها بالبقاء على قيد الحياة.
في روايتها "النباتيّة" وهي روايتها الأساس التي أشادت بها لجنة جائزة نوبل نتابع قصة امرأة تدعى "يونغ هاي" التي تقرر التوقّف عن تناول اللحوم، مما يؤدي إلى تأثيراتٍ غير متوقعة على حياتها وعلاقاتها الأسرية.
إن اختيار "يونغ هاي" للتحوّل إلى النمط النباتي لا يعكس مجرد قرار شخصي يتعلق بالطعام، بل هو تعبيرٌ عن تمرّدٍ داخليٍّ على القيود الاجتماعية والتقاليد الأسرية القمعية. سنكتشف أنّ الرواية تقدّم، وبطريقة مبسّطة، دراسةً متعمقة حول بعض أمراض النفس البشرية، وتحديداً الهروب من الواقع والخوف من مواجهته، والرغبة في إنكار النفس لدرجة المحاولة الجادّة في التحوّل إلى شجرة!! وكلّه ضمن معالجة قضايا الهوية والحريّة والضغط الاجتماعي.
تنقسم الرواية إلى ثلاثة أجزاء، وكلّ جزءٍ يُروى من منظور شخصية مختلفة. هذا الأسلوب يتيح للقارئ فهماً أعمق للعلاقات المعقدة بين الشخصيات، ويسلط الضوء على تأثير تغيير تصرّفات "يونغ هاي" على حياتهم. وهو سلوكٌ أدبيٌّ يُنصف البطلة؛ فطالما هي اختارت الهروب وعدم المواجهة، أعطت الكاتبة الفرصة لغيرها ليحكي عنها.
الجزء الأول من الرواية يسلط الضوء على ردود الفعل العائلية والمعارضة الشديدة التي تواجهها "يونغ هاي" من قبل زوجها وأسرتها. أما الجزء الثاني فيركز على تفاعل صهرها معها، الذي يجد في تحوّلها مصدر إلهامٍ فنّي وشخصي (ويصير هنا ما يسمى بالأدب الإيروتيكي حاضراً وبقوّة). ويأتي الجزء الأخير من منظور أختها، التي تشهد التدهور الجسدي والنفسي "ليونغ هاي" بسبب قرارها.
إذاً لم تكن رغبة بطلة الرواية في هذا التحوّل نابعاً من إرادةٍ محضة في سلوك نظامٍ صحّي، بل هو نتيجة لرؤىً تأتيها في المنام للاتحاد مع الطبيعة، ثم تفسّر الكاتبة لنا أسباب حصول هذه المنامات من خلال حياة البطلة التي يرويها لنا الآخرون، وهذه الروايات ستعكس جمالاً مريراً في تصوير الألم والمعاناة والحياة القمعية التي عانتها "يونغ هاي"..
قراءتي الخاصة لأحداث الرواية تقول بأنّ البطلة لم تكن موجودة أصلاً في متن الرواية بكونها إنسانٌ يتمتّع بكامل أهليته العقلية والنفسيّة، لقد كانت ضحية القمع والاستهزاء وتفاهة المحيطين بها فلم تجد غير الأحلام منفذاً وخلاصاً لها، عندئذٍ منحت هذه الأحلام كلّ ولائها؛ وهذا ما دفعها للانتحار اتّحاداً مع الطبيعة وتحوّلها إلى شجرة!.
لا أنكر أنّني استخففت بالرواية في بداية قراءتي لها، ولم أجد فيها ما يمنعني عن طرحها جانباً، ولم تكن (كما لم تكن دائماً) جائزة نوبل التي مُنحت للكاتبة عن مجمل أعمالها وإشادةً بهذه الرواية، أقول: لم يكن للجائزة أيّ اعتبارٍ عندي لقلة ثقتي بهذه الجائزة، لكنّني واصلت القراءة سعياً لاستكشاف الأدب الكوري الجنوبي الذي لايصل المكتبة العربية منه إلا النزر اليسير.
الرواية ثقيلة ودسمة دون أن تشكّل عبءاً على القارئ نظراً لسلاسة الأحداث وانعدام التعقيدات اللغوية والأساليب الأدبية، لكن ربط الأحداث ببعضها هو ما يحتاج إلى تفسير. وغالباً ما تحتوي الروايات العميقة (مثل النباتية هذه) على مستوياتٍ متعددة من الحكاية، حيث تندمج الشخصيات في نسيجٍ معقّدٍ من العلاقات والتداخلات التي تعكس رؤية المؤلف للعالم.
كل ماسبق يجعل عملية القراءة تتجاوز حدود المتعة إلى مهمةٍ فكرية تتطلب الصبر والانتباه. وسيجد القارئ نفسه في مواجهة امرأةٍ مريضة جسدياً ونفسياً، ومجتمعٍ أشدّ منها مرضاً يتكالب عليها ولايرحمها.
• النباتيّة
• هان كانغ
• ترجمها عن الكورية: محمود عبد الغفار.
• دار التنوير. الطبعة الأولى 2018.
• 224 صفحة.
الكاتبة الحائزة على جائزة نوبل للأدب 2024.
مرّ وقتٌ طويل (ولايزال يمرّ) ونحن العرب في معزلٍ عن أدب شرق آسيا، فما يصلنا منه لايكاد يشكّل شيئاً أمام الرحلة الأدبية العريقة التي تمضي في تلك البلدان، "هان كانغ" كاتبة كورية جنوبية معروفة في بلدها، أمّا نحن القرّاء العرب فنجهلها ونجهل رفقاء دربها من الأدباء، (وبالطبع هم يجهلون أدبنا وكتّابنا)، وكنا نعتقد حتى وقتٍ قريب أنها كانت تجلس في بيتها بجوار المدفأة، ترفع بصرها بين الحين والآخر لتنظر إلى العصفور الذي اتخذ من نافذتها مقراً له. لم يكن يدرك أحدٌ، ولا حتى العصفور نفسه، أنّ تلك السيدة ذات الشعر الأسود المسبل يمكن أن تصبح ذات يوم حديث العالم.
وبعد الاطلاع على المصادر الموثوقة تبيّن لنا غير ذلك، إنّها أشهر كتاب بلدها وكانت المرشحة الأولى للجائزة، وبحسب بعض الصحف الأدبية الكورية فإنه سيكون من الغريب إن لم تنل "هان كانغ" جائزة نوبل خلال هذا العقد إن أسعفتها صحتها بالبقاء على قيد الحياة.
في روايتها "النباتيّة" وهي روايتها الأساس التي أشادت بها لجنة جائزة نوبل نتابع قصة امرأة تدعى "يونغ هاي" التي تقرر التوقّف عن تناول اللحوم، مما يؤدي إلى تأثيراتٍ غير متوقعة على حياتها وعلاقاتها الأسرية.
إن اختيار "يونغ هاي" للتحوّل إلى النمط النباتي لا يعكس مجرد قرار شخصي يتعلق بالطعام، بل هو تعبيرٌ عن تمرّدٍ داخليٍّ على القيود الاجتماعية والتقاليد الأسرية القمعية. سنكتشف أنّ الرواية تقدّم، وبطريقة مبسّطة، دراسةً متعمقة حول بعض أمراض النفس البشرية، وتحديداً الهروب من الواقع والخوف من مواجهته، والرغبة في إنكار النفس لدرجة المحاولة الجادّة في التحوّل إلى شجرة!! وكلّه ضمن معالجة قضايا الهوية والحريّة والضغط الاجتماعي.
تنقسم الرواية إلى ثلاثة أجزاء، وكلّ جزءٍ يُروى من منظور شخصية مختلفة. هذا الأسلوب يتيح للقارئ فهماً أعمق للعلاقات المعقدة بين الشخصيات، ويسلط الضوء على تأثير تغيير تصرّفات "يونغ هاي" على حياتهم. وهو سلوكٌ أدبيٌّ يُنصف البطلة؛ فطالما هي اختارت الهروب وعدم المواجهة، أعطت الكاتبة الفرصة لغيرها ليحكي عنها.
الجزء الأول من الرواية يسلط الضوء على ردود الفعل العائلية والمعارضة الشديدة التي تواجهها "يونغ هاي" من قبل زوجها وأسرتها. أما الجزء الثاني فيركز على تفاعل صهرها معها، الذي يجد في تحوّلها مصدر إلهامٍ فنّي وشخصي (ويصير هنا ما يسمى بالأدب الإيروتيكي حاضراً وبقوّة). ويأتي الجزء الأخير من منظور أختها، التي تشهد التدهور الجسدي والنفسي "ليونغ هاي" بسبب قرارها.
إذاً لم تكن رغبة بطلة الرواية في هذا التحوّل نابعاً من إرادةٍ محضة في سلوك نظامٍ صحّي، بل هو نتيجة لرؤىً تأتيها في المنام للاتحاد مع الطبيعة، ثم تفسّر الكاتبة لنا أسباب حصول هذه المنامات من خلال حياة البطلة التي يرويها لنا الآخرون، وهذه الروايات ستعكس جمالاً مريراً في تصوير الألم والمعاناة والحياة القمعية التي عانتها "يونغ هاي"..
قراءتي الخاصة لأحداث الرواية تقول بأنّ البطلة لم تكن موجودة أصلاً في متن الرواية بكونها إنسانٌ يتمتّع بكامل أهليته العقلية والنفسيّة، لقد كانت ضحية القمع والاستهزاء وتفاهة المحيطين بها فلم تجد غير الأحلام منفذاً وخلاصاً لها، عندئذٍ منحت هذه الأحلام كلّ ولائها؛ وهذا ما دفعها للانتحار اتّحاداً مع الطبيعة وتحوّلها إلى شجرة!.
لا أنكر أنّني استخففت بالرواية في بداية قراءتي لها، ولم أجد فيها ما يمنعني عن طرحها جانباً، ولم تكن (كما لم تكن دائماً) جائزة نوبل التي مُنحت للكاتبة عن مجمل أعمالها وإشادةً بهذه الرواية، أقول: لم يكن للجائزة أيّ اعتبارٍ عندي لقلة ثقتي بهذه الجائزة، لكنّني واصلت القراءة سعياً لاستكشاف الأدب الكوري الجنوبي الذي لايصل المكتبة العربية منه إلا النزر اليسير.
الرواية ثقيلة ودسمة دون أن تشكّل عبءاً على القارئ نظراً لسلاسة الأحداث وانعدام التعقيدات اللغوية والأساليب الأدبية، لكن ربط الأحداث ببعضها هو ما يحتاج إلى تفسير. وغالباً ما تحتوي الروايات العميقة (مثل النباتية هذه) على مستوياتٍ متعددة من الحكاية، حيث تندمج الشخصيات في نسيجٍ معقّدٍ من العلاقات والتداخلات التي تعكس رؤية المؤلف للعالم.
كل ماسبق يجعل عملية القراءة تتجاوز حدود المتعة إلى مهمةٍ فكرية تتطلب الصبر والانتباه. وسيجد القارئ نفسه في مواجهة امرأةٍ مريضة جسدياً ونفسياً، ومجتمعٍ أشدّ منها مرضاً يتكالب عليها ولايرحمها.
• النباتيّة
• هان كانغ
• ترجمها عن الكورية: محمود عبد الغفار.
• دار التنوير. الطبعة الأولى 2018.
• 224 صفحة.