فنان يسترجع ملامح تونس بالقلم ويحميها من التلاشي والجمود

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • فنان يسترجع ملامح تونس بالقلم ويحميها من التلاشي والجمود

    فنان يسترجع ملامح تونس بالقلم ويحميها من التلاشي والجمود


    أحمد الباروني يخلق بين الشخوص والأمكنة روحا من دفء يعتق الأزمنة.
    الأحد 2025/04/06
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    نوستالجيا تحمل روح تونس وفضاءاتها

    عرف الفن التشكيلي في تونس العديد من التجارب الانطباعية التي لم تأت من فراغ، وإنما من ثراء اللون والضوء والتفاصيل المعمارية والحياتية والمكانية والحضارية في تونس، إذ تمتلئ مدنها القديمة بألوان تجتذب العين لتسرح بين حكاياتها، وهو ما استفاد منه الرسامون التونسيون وحتى الغربيون الذين زاروا البلاد. لكن هناك من ذهب بانطباعاته إلى التعبيرية على غرار الفنان التونسي أحمد الباروني، الذي استنطق الأماكن والوجوه بقلمه.

    لا يمكن أن يتشكل الفضاء دون اتصال الحواس المنتعشة بالذاكرة، تلك حكمة العابرين من اللون إلى الضوء ومن الضوء إلى الفضاء ومن الفضاء إلى الماضي، في لحظة استعادة ورائية تعيد للمشاهد حضورها الحاضر في حنين الاسترجاع والتأمل، إنها الطريقة التي استطاع بها التشكيلي التونسي أحمد الباروني أن يبلور تجربته البصرية المعتّقة بالتفاصيل والتكوينات الحرّة المحلّقة في سماء من نور وضوء وجمال موقّعة بنوستالجيا تحمل روح تونس وفضاءاتها.

    هذا الحنين الذي تشكّلت فيه العلامات المشحونة التي صاغها الباروني وصقلت منطقه البصري ومفرداته التشكيلية التي امتدّت نحو عمق آخر، استطاع أن يحمل المتلقي معه أبعد في صورة التجلي الأولى التي ابتكرها من تماس التعلّق بالأمكنة والأزمنة والملامح قبل التعلّق باللوحة نفسها.
    التقاط التفاصيل



    الباروني يعتبر القلم أسلوبا فنيا وأداة الدقة والصبر فاختيار القلم كوسيلة لالتقاط الوجه والملامح ليس بالأمر الهين


    يخاطب أحمد الباروني المتلقي بالصور الحاضرة والبصمة المعاصرة وهذا يُعتبر سفرا من نوع آخر له نكهة فنية في الرؤى وابتكارية الروح، استطاع من خلالها الرسام تكوين أجنحة من ألوان تتنقّل بين الوجوه والأمكنة في رحلة بصرية جديرة بالاكتشاف، كل هذه التجربة يقدّمها فضاء “الرواق صالون الفنون” بسوسة في معرض فني بعنوان “Flashback استرجاع” من الثاني والعشرين من مارس المنقضي إلى العاشر من أبريل الجاري.

    وقد اعتبر المشرفون على الرواق أن المعرض “رحلة لفنان استثنائي الموهبة ومتفرّد التقنيات مبدع، مخضرم، عمله يتميّز بإتقان ملحوظ ودقّة في تكثيف التقنيات المختلطة مع براعة في توظيفها، والتي تبدو وتتجلى في اعتماد قلم الحبر الجاف في الرسم والتلوين، وهو ما يضفي سمة استثنائية على مستوى الرؤية التشكيلية للوحة”.

    وقد حرص الرواق وفق بيانه في إطار برمجته الفنية على تسليط الضوء على التجارب التونسية ذات الخصوصيات الإبداعية المميّزة والتي وصلت إلى 50 معرضا فنيا مخصّصا لقرابة 250 فنانا من تونس خلال السنتين الأخيرتين، في إطار برمجتهم الشهرية.

    بالنسبة إلى تجربة الباروني فإنها ترتكز، حسب منظمي المعرض، على “رؤية لفنان فريد من نوعه سواء من حيث أسلوبه أو من حيث محتوى لوحاته المخصصة للبورتريه والطبيعة والحياة بتفاصيل عميقة، فتعبيريته واقعية ومدهشة في التقاط التفاصيل، وكل تفصيل فيها يمنحه الفنان من عاطفته وحضوره وتقمّصه وكأنه يحكيه أو يسرده بصريا، كما أن جمعه للوسائط المتعددة والمختلفة يجعله أيضا في رحلة بحث وتجدد دائمة لاكتشاف خامات جديدة تدعم روحه التونسية وهويته وبصمته وحركته الدائمة التي تتجدد مع تجدد مواضيعه”.
    بين الوجوه والأمكنة


    أحمد الباروني يخاطب المتلقي بالصور الحاضرة والبصمة المعاصرة وهذا يعتبر سفرا من نوع آخر له نكهة خاصة

    يعتبر الباروني أن القلم هو أسلوب فني وأداة الدقة والصبر، فاختيار القلم كوسيلة لالتقاط الوجه والملامح ليس بالأمر الهيّن، على عكس الفرشاة أو الفحم، أولا لصعوبة تركيب اللون والأهم أنه لا يسمح بالتعديل أو المسح، فكل ضربة هي قرار وكل قرار هو رؤية بصرية وفنية، وكل خط يساهم في بناء نهائي للصورة.

    إن الأسلوب يحتاج منه تريّثا متقنا واحترافا بارعا عند التنقّل بين الملامح والبناء المشهدي للوحة أثناء التركيز على التظليل والتركيب، وهي عملية دقيقة سواء لتشكيل اللوحة أو لتكوين الأحجام وإبراز الملامح خاصة مع تفعيل الضوء والظل ومستوى التفريق بين الأزمنة والمواقيت.

    ويساعده ذلك على خلق حركة أو اقتناص وميض متفرّد بين المكان والملامح فهو لا يرسم ويشكّل فقط بل يحمي الملامح من التلاشي أو من الانسياب أبعد نحو الجمود لأنه يعطيها من روحه إشراقة عابرة تمنح اللوحة حقيقة وواقعية حضورها الساحر وجوهرها العميق.
    بصمة لا تمحى



    تجربة بصرية معتقة بالتفاصيل


    تلك البصمة التي يعتبرها الباروني ليست مجرّد علامة على ورق بل رؤية صامدة أمام اختبارات الأزمنة قادرة على سرد قصتها العميقة ونقل المشاعر الكامنة في عمقها الأبعد بالعاطفة والحيرة والقلق والبحث والحلم والأمل، قادرة على احتكار الفرح وإخفائه وإظهاره لمن يستطيعون التأمل، وهي لعبة حسيّة ابتكرها الباروني بين الخطوط والظلال تخلق تماسا أو تبتكر مواعيد لقاء تجتمع على الفن والحياة والتدفق نحوها بمرح ومحبة قادرة على الانسياب خارج أطر اللوحة وأبعد من تفاصيل الحبر الجامدة.

    إن السمة الأبرز في لوحات الفنان أحمد الباروني هي تلك الأصالة الطافحة بالحنين والتي تبدو مثل حكاية عميقة قادرة على استنطاق الأزمنة أو استدراج المتلقي إليها بحوارات باطنية تتساءل أو تتجوّل في رحلة مختلفة عبر الضوء واللون والمساحة بحرية أجاد تطويعها داخل مساحة اللوحة من خلال حكمة توظيفه لعنصر الفراغ الحامل لعمق الرؤية البصرية التي يريد تفعيلها.

    فهو يحملها برفق ويقدّمها بفنية يريد منها تسريب فكرته، حنينه ودمجه مع الحنين المسافر في رحلة اكتشاف بين اللوحة وصانعها واللوحة ومتلقيها وهي رؤية ممتعة كتجوال صاخب يحمل ضجيجا استثنائي التذكّر وانفعاليّ الحضور في التفصيل.
    الفنان يحمل المتلقي معه أبعد في صورة التجلي الأولى التي ابتكرها من تماس التعلق بالأمكنة والأزمنة والملامح

    فالباروني يجيد تفصيل محتوى لوحته سواء وهو يحاكي الملامح في سفر داخلي نحوها يرتقي يعطيها من تصوّراته ويشرق بها في درجات اللون والتظليل، أو في الشخوص التي ينتشلها من أزمنة بعيدة ويعيدها إلى أمكنتها فيذهب بها بعيدا في انفعالاته الحسية وتذكاره العابر من الماضي إلى الحاضر فيقدّمها بصورة متقنة في ملبسها وفضائها، من خلال العمارة الأصيلة والمساكن والأزقة ليخلق بين الشخوص والأمكنة روحا من دفء يعتّق الأزمنة.

    من خلال المنجز الفني الذي يقدّمه الباروني يختلط الواقع بالخيال والخيال بالفن في حركيّة ممتعة وحضور يبتعد عن ملل التصورات الناقلة للواقع، فهو ينصهر بها ومعها في مراقصات بصرية حرفية ذات بعد جمالي، ضمن لوحات حاملة لرؤاها المعاصرة داخل تأصّلها الدافئ، فالمتلقي لا يشعر بالاغتراب وهو يقترب من المنجز الفني بروح طفولية أو بنضج بصري قارئا لما بعد التصور الرؤيوي في مساحاته، فهو يقع على الزوايا وهو يمشي على خيط رفيع يصل الماضي بالحاضر يسترجعه بمرح الاكتشاف ومغامرة الاقتراب بين فضاء اللوحة وطبيعة الألوان تناغمات هادئة رغم الضجة الحسية.

    العلامة اللونية والأشكال التعبيرية تبدو متمازجة بين المشهد والمناحي التراثية في علامتها ورمزية حضورها ودرجة تفاعلها مع المشهد المحتمل للفضاء، وهو ما يفضي إلى إيحاءات تصنع رسائل من ثبات وتوازن وانتماء وهوية يتعامل معها بتعمّق ناعم وشاعرية تشكيلية.




    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    بشرى بن فاطمة
    كاتبة باحثة تونسية اختصاص فنون بصرية
يعمل...