غزة نافذة جديدة على المشهد التشكيلي الفلسطيني في العالم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • غزة نافذة جديدة على المشهد التشكيلي الفلسطيني في العالم

    غزة نافذة جديدة على المشهد التشكيلي الفلسطيني في العالم


    الالتزام بالقضية والتجريب الفني قاد الفنانين الفلسطينيين إلى صناعة أيقوناتهم الخاصة.
    الأحد 2024/03/24
    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    رمزيتها معبّرة عن الجذور الأصلية والعناد الثابت (لوحة للفنان سليمان منصور)

    تحدث سليمان منصور وهو من رواد الفن التشكيلي الفلسطيني مؤخرا ضمن فعاليات لقاء مارس في الشارقة كيف لم يسمح الاحتلال بإنشاء معهد فنون جميلة في فلسطين المحتلة، بينما كان يسمح ببناء معاهد طب وغيرها، هنا نتبين أهمية دور الفن وخطره وقدرته على نقل الرسالة والتأثير، وهو ما وعى به مبكرا الفنانون الفلسطينيون، الذين سطروا تجارب فارقة ملتزمة ومجربة في آن واحد.

    شكّلت الأيقونات البصرية التي عرفها الفن التشكيلي الفلسطيني علامات وجدانية لم تثبت في مكانها ومساحاتها بل تسرّبت أبعد في أذهان العالم، وذلك على امتداد تاريخ هذا الفن الحديث والمعاصر وفي بداياته التجريبية الفنية.

    وهو ما أعطى رؤى بصرية متجدّدة اشتغلت على تحديد ماورائيات الفكرة للعمل الفني، وارتكزت على توضيحها وتكثيفها وتحميلها المسارات التجريبية وتطويرها أبعد في الفكرة وذلك خدمة للقضية والفن عن طريق تصورات الواقع والخيال والتفاعل العام مع التجربة التي عرفت خصوصيات مختلفة اتسمت فيها الحركة الفنية بالمقاومة من أجل إثبات الذات والهوية الثقافية في الأرض ومن أجل الحرص على تفسير الوقائع وكل ما حصل ويحصل من تفاصيل.
    رمزية الأيقونات



    الأيقونات تفاصيل ثقافية واقعية ويومية (لوحة للفنان مصطفى الحلاج)


    لعل العدوان الأخير على غزة وقمع العالم لحركة المساندة الدولية ومنع رفع العلم الفلسطيني أو أيّ مظاهر الانتماء كمساندة افتراضية أو واقعية أدى إلى تأجّج هذه العلامات والأيقونات البصرية من جديد، حيث رفعها المناصرون للقضية ولغزة في العالم الذي تساءل أكثر عنها وطلب تفسيرها وهو ما أدى إلى إعادة إحيائها من جديد على وقع الأحداث تخليدا وتثبيتا لدورها النضالي.

    ولعل هذا الدور النضالي الدولي الجديد والمتجدّد، فعّل نهضة جديدة نفضت غبارها عن التيار التشكيلي الفلسطيني وجددت دماءه مرّة أخرى ليعود له دوره الأساسي في التعبير عن فلسطين القضية الإنسانية دفاعا عن هويته وانتمائه، وتكريسا لأهمية المقاومة والحق في الأرض وبالتالي يحيل هذا التمشي الدولي إلى خلق بصريات جديدة هدفها النبش في الحركة البصرية والتشكيلية الجديدة للتجربة التشكيلية الفلسطينية.

    هذه الأيقونات تمثّلت في تفاصيل ثقافية واقعية ويومية تبدأ من الأرض والإنسان تمثّلت في رمزية الألوان الأحمر والأخضر والأسود والأبيض التي تشكّل العلم الفلسطيني والتي تبدّلت عبر التاريخ التشكيلي كأيقونات أخرى مثل البطيخ عندما رفض رفع العلم، فكانت رمزيتها معبّرة عن الجذور الأصلية والعناد الثابت ورمزية الزيتون والبندقية والحمامة والطفل وبالخصوص الطفل حنظلة إضافة إلى الكوفية والأسلاك والثوب الفلسطيني وعنصرية المرأة الفلسطينية كإحالة على الأرض والهوية.

    يحتاج الحديث عن الفن التشكيلي الفلسطيني إلى ذاكرة استثنائية، فقد لعب دورا قويا في التعبير عن كل ما ميّز “فلسطين” من الواقع والحدث إلى الفكرة والصورة المتخيّلة والحلم المنشود.

    استطاع على اختلاف أجياله وأساليبه وطبيعته أن يتشكّل حسب كل معطيات الأحداث والمراحل، ويعبّر عن هدف واحد انطلق من تفاصيل الواقع. الموروث، الأرض، الهوية، الحضارة الأسطورة التاريخ..

    هذه المعطيات تتشكل أولا داخل الفضاءات النفسية التي تبدأ من روح الفنان ودمه وخلاياه ثم تتفجّر في المنجز الفني، فلطالما أدهشنا الفن التشكيلي الفلسطيني بعوالمه الفلكلورية الفنية أو بأساليبه في تفكيك الألم الداخلي المعبّر عن التهجير والشتات أمام قوة طرح فكرة العودة، هي خصوصية اكتسبها الفن التشكيلي الفلسطيني من واقع الوضع وتداخلاته، فرضت عليه أن يكون في خدمة قضيته وملتزما بالتعبير عن مسيرة نضال شعبه، الأمر الذي أوقعه في جدلية وقفت عند خط التعامل معه وكيفيّة تناوله.

    التجربة التشكيلية الفلسطينية تجريبية لكنها واجهت الواقع وحاكته لأن روّادها اعتبروا الفن سلاحا في وجه الطمس الثقافي

    هل يخضع الفن التشكيلي بكل تجاربه التي لامست الواقع للنقد الفني أم أن التعامل معه يكون حسب ما يفرز من انفعالات تفرض التعاطف معه وتمجيده؟ خاصة وأن هذا الواقع أليم وصادم، فالتعاطي مع تأثير الواقع على التجربة الفنية الفلسطينية تشكيليا يعتبر أمرا ملحّا خاصة وأنه أثّر على عدّة تجارب، كما أنه خلق أيضا تجاذبات بين حتميّة الالتزام الوطني فنيا وبين المشاغل والطموحات التشكيلية.
    البدايات والتعمق


    تعود بداية ظهور التجربة الفنية التشكيلية الفلسطينية المعاصرة إلى سنة 1935 وهي المرحلة التي حدّدها إسماعيل شموط، أحد أبرز روّاد الفن التشكيلي الفلسطيني، وحصرها المؤرخ الروسي أناتولي بغداتوف من سنة 1935 إلى1955 حيث ربطها بمرحلة التّعرف على التجربة الغربية، هذه المرحلة التي أشبعت بأفكار مناهضة للإمبريالية والتّصدي للخطر الصهيوني بدأت بالرسم الأيقوني والشّعبي والحرفي واستندت على الزخرف وتداخلت فيها قيم الجمال مع المنفعة من خلال الأفكار التي فرضها الواقع، الذي هيّأ طرق التعامل معه فنيا مثل ما فعل نقولا الصايغ أو زلفا السعدي.

    ومع اندلاع ثورة 1936 وحرب 1948 أو ما عرف بعدها بالنكبة تشكل واقع فلسطيني جديد ظهرت معه مصطلحات “الشتات” و”الملاجئ” و”العودة” لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل التعبير فرضها هذا الحدث والواقع.


    التشكيلي الفلسطيني لم يكتف بالتقوقع على واقعه بل طوّر به المعنى وتغيّر بتغيره ونضج وانفتح لكنه لم ينفصل عنه


    بدأت معها أبرز عناصر الالتزام في الفن ورسّخت لغة تشكيليّة حوّلت العمل التشكيلي إلى مرآة عاكسة للواقع. ففطرت الفنون التشكيلية الفلسطينية على الرمز ابتكارا ومنجزا دلالة ومفهوما وإشارة توحي بقيم بصرية وجمالية مفعمة بخصوصية الواقع، الهوية، معالجة بتقنية حاشدة بالمعاني والوصف مع تعبير شكلي في حدود المكونات والمواضيع التي تعالجها مخيّلة الفنان فكرة وموضوعا وخطا ولونا ومختلف مكونات الفن التشكيلي، ليصبح الواقع جزءا لا يتجزأ من العمل الفني يحاكي التاريخ والتراث والحضارة وكل الخصائص المميزة للشعب على اختلاف تفاصيله اليومية السياسية الثقافية الحضارية التي لازمته من خلال صيرورة الزمان والمكان.

    عكست تلك الأعمال ابتكارات الفنانين التشكيلية من عمق معرفي وبصرية حافلة بمنقولات الدور والوظيفة المعبرة عن الانتماء والكفاح ومدى ارتباطه بمحيطه وهويته وصراعه الدامي المستمر ماديا ومعنويا ونفسيا ليتم ابتكار صورة لفلسطين “الوطن” وهو ما نلاحظه في تجربة إسماعيل شموط أو إبراهيم غنام حين دمج الفني بالسياسي والأيديولوجي، فأصبحت الواقعية أسلوبا مفروضا رسّخ المحافظة على خطاب التغيير والثورية إذ تسرد الصورة المنقولة الواقع وتحكيه “بنسخ غير حقيقيّ للواقع الأصلي ليصبح ما نراه صورة عن ذلك الواقع عموما لا تخلو من المصداقية بإخلاصها إلى أصلها ومرجعيتها”.

    وقد أتاحت دراسة الفنون الجميلة والتخرج من أكاديميات الفنون العالمية للعديد من التشكيليين الفلسطينيين الفرصة لإنضاج تجاربهم وتطوير أساليب التعبير، غير أنها لم تحد عن تحديد سمات الواقع فظهرت الأعمال مبنية على قوّة الحكاية الحزينة بما يثير التعاطف بعيدا عن الغضب، ما يضعنا أمام أسلوب محكي بالصور لمضامين قصصية تابع فيها الشكل المضمون، “عين العقل تخاطب الجسد” وهي تطرح هدف الحكاية، “متعة بصرية تقدم الشكل واللون وتحمل أسباب الانفعال والإثارة”.

    لا يخلو العرض الفني التشكيلي من “تساؤلية” تطرح داخل المنجز الفني تقوم على استفسارات تبحث في الواقع وآفاقه، ما يفضي إلى “مسرحة هذا الواقع وخلق فضاء للحكاية” و”البناء الرمزي للواقع” وهنا تتحوّل العناصر الواقعية إلى رموز استطاعت أن تبقى ملازمة لفكرة فلسطين أكثرها تجليا “الأرض” بكل ما تختزله من مكوّنات وعناصر طبيعية وبشرية تثير معنى “الهوية”، فاختلف تصويرها وأحيانا تشخيصها في شكل الأنثى حسب المعطى وحسب الذاكرة وحسب واقع الأمكنة، فلسطينيو الشتات جعلوها خلفية للأحداث أو استرجاعا لماضي الفرح وذكريات الوطن وفلسطينيو الأراضي المحتلة فجّروا بها رموزا بسيطة قامت على مفهوم الهوية والانتماء في أعمال سليمان منصور وتيسير بركات وجواد ابراهيم.
    التجريب والالتزام


    لطالما أدهشنا الفن التشكيلي الفلسطيني بعوالمه الفلكلورية الفنية أو بأساليبه في تفكيك الألم الداخلي المعبّر عن قضية شعب

    في سنة 1987 تاريخ الانتفاضة الأولى عرف الفن التشكيلي الفلسطيني منعطفا آخر حوّل مسار التعبير عن “القضية الفلسطينية” عموما وحمل الفن الواقع في اتجاه آخر وتحوّل به من إطاره الضيّق في التعبير إلى الرغبة في التطوّر والعالمية والإفصاح عن ذلك الواقع فنيا.

    هنا ظهر مفهوم “الذاكرة” كركن أساسيّ في تكوين الشخصيّة الفلسطينية لتعلّقها بالبعد الزماني المتبقي لها بعد فقدانها لبعدها المكاني، “فعلاقة الفلسطيني بالمكان تتحدّد بالزمان من خلال الاسترجاع”.

    وتعيد الأعمال التشكيلية الفلسطينية ترتيب هذه الذكريات وتعالجها جماليا في محاولة لترميم ما تهدّم من صورة الوطن الأولى، هنا تجتمع الأعمال الفنية على أبعاد رمزية تتكاثف حتى تؤلّف حكاية كاملة غايتها توثيقية، هدفها تثبيت ما علق في الذاكرة في مشهدية أرشيفية تحاكي الحياة اليومية بتفاصيلها المنسيّة أو التي بدأت تتلاشى، رغم أنها مازالت عالقة في الذاكرة الشعبية الفلسطينية. ويتّضح هذا في ما قدّمه إبراهيم غنام “الذي أظهر قدرة هائلة على تخيّل صور متحركة في زوايا منسية، كانت قادرة على استحضار المشاهد اليومية للفلسطيني ليعكس لنا الفرق الشاسع بين الأمس واليوم، بين عذوبة الماضي وقتامة الحاضر وبؤسه”.

    الوطن أو “البلاد” يعيد صياغتها الرسام عبدالحي مسلم بطريقة خاصة، مبنية على استعادة ذكريات الريف الفلسطيني واستحضارها كرمز يثبت مشروعية “حلم العودة”.

    تجربة تمام الأكحل وأسلوبها الفني طرح فكرة “العودة” في “الخلط المقصود ما بين واقعية الذكريات والأحلام”، وهي ذكريات مرتبطة أساساً بالموطن الأول والطفولة التي تقتات منها الذاكرة لتقول إنها ليست مجرّد “ذكرى” تحوّل المادي إلى ذهني.

    تجربة أخرى تعاملت مع الذكريات دون أن تستعيدها، ولكن بنتها لتأخذ شكلا أسطوريا للفنان مصطفى الحلاج الذي حكم عليه الواقع بالنفي والتشتت مع أبناء جيله عام 1948، فوجد نفسه يبحث عن هوية في طريقها إلى الضياع مزجت حياته الواقعية بأسطورية جعلت رحلته الفنية موازية لرحلة التشتت والمنافي اتّسمت بالسريالية واللاواقعية، تشترك ذكريات الحلاج مع ذكريات الجموع الفلسطينية، فهذه الظروف جعلت ذاكرة الفنان تقوم بعملية تحويل للواقع المعيش إلى خيالات وأحلام ممزوجة أحياناً بأبعاد أسطورية لتعويض ذلك الفقد ولا تكون مجرّد ذاكرة بكائيّة.



    وتعدّ السريالية من بين التيّارات الفنية المعاصرة التي ميزت الحركة التشكيلية الفلسطينية، فلم تؤثر بمبادئها على أعمال الحلاج فقط بل على عدّة فنانين نذكر من بينهم سليمان منصور وإبراهيم أبوالرب وعدنان يحيى.

    تجربة إبراهيم أبوالرب مثلت في جداريّات عملاقة سريالية ورمزية، يتعامل فيها مع الشخوص كي تبدو للنّاظر مثل مومياء محنّطة لكنها تتحوّل حسب الصيغ اللونيّة والأسلوب البارز لصورة شهداء صاعدين إلى السماء بشموخ، تبرز تاريخا إنسانيا يتجاوز الصراع ويتمرّد بكل عنف على أشكال الإبادة الحضارية للإنسان الفلسطيني، التي لا تنفصل عنده عن فكرة الفن، تعبّر عن التضحية واللجوء والعودة والحريّة والثورة والاستشهاد، تتجاوزه كفرد لتعبر عن الشعب وعن الإنسانيّة، فتفريغ شعب من أرضه وإحلال شعب آخر مكانه يعتبره أبوالرب أوجع وأهم حدث عرفه تاريخ البشريّة.

    ولم يكتف التشكيلي الفلسطيني بالتقوقع على واقعه بل طوّر به المعنى وتغيّر بتغيره ونضج وانفتح لكنه لم ينفصل عنه، فلم يقتصر الفن على اللوحة فقط بل شمل مختلف المساحات، “فن الملصق”، “الفن الفطري” داخل السجون خاصة مع تجربة الفنانين زهدي العدوي ومحمد الركوعي في سجن عسقلان، وتوظيف النسيج والثوب التقليدي هو ما جسدته الفنانة الفلسطينية بثينة ملحم، والصورة الفوتوغرافية مع رولا حلواني، وتقنيات التصميم الضوئي والغرافيك في تجربة الفنانة سمر غطاس.

    ما يمكن أن نشيد به في التجربة التشكيلية الفلسطينية وهي تواجه الواقع وتحاكيه أن روّادها اعتبروا الفن سلاحا في وجه الطمس الثقافي وقف أمام الانهيارات والهزائم ولم يقتصر على أسلوب واحد فقط بل قدّم مدارس متعدّدة.

    كما حمل الفن التشكيلي الفلسطيني رغم فترات التوهّج النضالي والخفوت البصري رؤى تجريبية مختلفة لامست التطورات البصرية والتقنيات المختلفة في الفنون المفاهيمية وفنون الأداء والفيديو آرت كان شعارها الأساسي الحق الإنساني في إثبات الذات والانتماء، اعتمدت على الرموز التي أفرزها الواقع وتميز بها، استغلها في تسريب معانيها إلى الأذهان فأصبحت مفهومة لدى كل العالم.




    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    بشرى بن فاطمة
    كاتبة باحثة تونسية اختصاص فنون بصرية
يعمل...
X