الروائي الأرجنتيني ريكاردو بيجليا يخلق أسلوبه الفريد بدمج المتناقضات

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الروائي الأرجنتيني ريكاردو بيجليا يخلق أسلوبه الفريد بدمج المتناقضات

    "تنفس صناعي" اشتباك سياسي وإبداعي مع فكرة الكتابة وأشكال الرواية


    الروائي الأرجنتيني ريكاردو بيجليا يخلق أسلوبه الفريد بدمج المتناقضات
    الخميس 2024/03/28
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    احتيال على القمع (عمل للفنان روبرتو جاكوبي)

    في الوقت الذي ذاع فيه صيت أسلوب الواقعية السحرية وهيمن على كتابات أدباء أميركا اللاتينية، كان هناك أدباء آخرون خيروا أنماطا أخرى لكتابة السرد مستفيدين من التراث الأدبي ومن وعيهم بالأساليب السردية، ومن بين هؤلاء الروائي الأرجنتيني ريكاردو بيجليا الذي تعتبر روايته “تنفس صناعي” من أهم الأعمال الأدبية في أميركا اللاتينية.

    “تنفس صناعي” الرواية الأولى وليست الكتاب الأول للروائي الأرجنتيني ريكاردو بيجليا، نشرت عام 1980، وقد سبقها العديد من المجموعات القصصية، رواية غير تقليدية، وتعتبر إحدى أهم روايات أميركا اللاتينية في العقود الأخيرة.

    كتبت الرواية في مجتمع يعاني من العنف وقمع الأفكار بوحشية، ومن ثم فهي تضيء أبعاد الحالة الاجتماعية والسياسية والأدبية والسردية في الأرجنتين، وذلك من خلال مستويات غموض قوية عبر تقنيات الكتاب تحيلا على القمع والعنف الذي كان يسود الأرجنتين وقتئذ؛ حيث تتناول فكرة الكتابة والأفكار وأشكال الرواية وتطور الأساليب الأدبية، وأيضا تتناول اللغة وما يحدث للغة (أو اللغات) عندما ينطلق بها المرء أو يكتبها.
    أسلوب الحكاية الشفهية



    فهم التاريخ يشبه إلى حد ما فهم الرواية


    الرواية التي ترجمها وقدم لها عبدالسلام باشا وصدرت ضمن سلسلة الجوائز عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، تؤكد أن فهم التاريخ يشبه إلى حد ما فهم الرواية؛ هناك صوت يجب سماعه، وأنماط مخفية، وتكرار بارع في الطريقة التي يثير بها الروائي الرقابة بينما يتحايل عليها في نفس الوقت.

    تتعدد شخصيات الرواية وأحداثها وتمتد خلال فترة زمنية بدءا من النصف الأول من القرن التاسع عشر ووصولا إلى سبعينات القرن العشرين، لنتعرف إلى أربعة أجيال وعلاقتها المعقدة سواء بتاريخ بلاد الأرجنتين أو بحياة العقل الإبداعي والثقافي والفكري، وقد افتتح الروائي عمله بنص للشاعر ت. س. إليوت يعد مفتاحا مهما لفهم الرواية: “مررنا بالتجربة لكن فاتنا المعنى،/ اقترب من المعنى يعيد التجربة“.

    الحدث الذي تقوم عليه الرواية هو بداية تعرُف الراوي الكاتب على خاله الذي لم يره من قبل والتواصل معه من خلال تبادل الرسائل وسفره فيما بعد في محاولة لملاقاته، يكتب الخال سيرة أحد الرجال المُقربين إلى الحاكم الدكتاتور روساس في القرن التاسع عشر ومن خلال الرسائل والسيرة يمر على الأحداث التاريخية والسياسية في الأرجنتين.

    أما الجزء الثاني فأكثر من ممتع عندما يجتمع كاتب وشاعر وفيلسوف وتدور المحادثات والمناقشات عن الأدب الأرجنتيني والعالمي، وطبيعة الثقافة الأرجنتينية، والأساليب الأدبية والنظريات الفلسفية والتنفس الصناعي ومحاولة للإحياء وفك رموز الذات والذاكرة وكشف أسرار الأدب والتاريخ بين الخيال والواقع.

    بيجليا بارع في إدارة الحوارات المتشابكة والمقارنة المميزة بين الأساليب الكتابية وعرض آراء نقدية للأدباء والفلاسفة، بجانب السرد المشوق لتفاصيل الشخصيات والأحداث والتقلبات والقناعات التي غيرت مسار حياة كل منهم.

    يقول باشا في مقدمته للرواية إن بيجليا يقوم بما يشبه تمرينا أو عرضا لأساليب الكتابة السردية التي ترد على لسان شخوصه أثناء مناقشتهم ومخاطبتهم المكتوبة أو الشفوية. فنجد أن قسما من الرواية يتكون من مذكرات كتبها شخص في القرن التاسع عشر كمحاولة لكتابة سيرة ذاتية، وجزء منها يتكون من مراسلات، ومع مواصلة قراءة الرواية نرى أن هناك حوارا يشغل بضع صفحات من القسم الثاني حول اللغة والأسلوب وتجديدهما في الأدب الأرجنتيني.

    وتحديدا تتناول هذه الصفحات قيام بعض المؤلفين بـ”نسخ” أو “كتابة” اللغة اليومية المنمقة لكي تصبح هي لغة الأدب، وبعد ذلك نجد أن بضع صفحات من الرواية يتم الحوار فيها بالعامية، أو بالأدق يتم استخدام تعبيرات ومصطلحات عامية على لسان المتكلمين في الحوار. وفي موضع آخر نجد أن إحدى الشخصيات تتحدث عن الشكلانية، وبعد ذلك ينتقل أسلوب السرد إلى ما يشبه تطبيقا للتوصيف الذي ورد على لسان الشخوص لهذا التيار الأدبي.


    ريكاردو بيجليا يقوم بما يشبه تمرينا أو عرضا لأساليب الكتابة السردية التي ترد على لسان شخوصه أثناء مناقشتهم


    ويضيف باشا “أسلوبيا يحافظ السرد على أسلوب الحكاية الشفهية، رغم أن هناك قسما ليس بالقليل مكونا من مراسلات مكتوبة، إلا أن هذه المراسلات تنقل بدقة ما يقوله الشخوص بعضهم لبعض، في استنساخ لأسلوب الحوار العادي الذي يتحدث به الأفراد، حيث يقومون بالتكرار للتأكيد على معنى ما، أو لمجرد الإلحاح على الفكرة. لكن هذا الحوار بدوره خضع للسرد، أي أنه يرد كما هو، لكن مصحوبا بتعليقات الراوي الذي يقوم بتفتيت الحوار ليصف الحالة النفسية أو ليوضح هوية قائل الكلام.

    يكشف عن أن الاستخدام المكرر والدائم لفعلي “قال” و”كتب” بتصريفات وأزمنة مختلفة خلال السرد يؤكد الطابع الحكائي الشفاهي. كأنما لا يتعلق الأمر بنص مكتوب قابل للتعديل والتحرير، وحيث يمكن استخدام علامات وأساليب كتابية مثل الجمل الحوارية أو النقطتين أو استخدام الأقواس لتحديد الكلام المقال على لسان شخصية ما.

    في الاستشهاد التالي يمكن ملاحظة هذا الأسلوب: ‘لكن أوسوريو ذاته يكتب (هكذا كتب لي ماجي)، أليس المنفي هو أحد أشكال الطوباوية؟ المنفي هو الرجل الطوباوي بامتياز، يعيش في حنين دائم للمستقبل هكذا كتب أوسوريو، هكذا كتب ماجي’. ونرى أن استخدام الفاصلة هو الشائع والمهيمن لدى الفصل بين قائل الكلام وبين الكلام ذاته. وبالإضافة إلى هذا، فإن الراوي يستخدم الفعل ‘قال مرتين’، مع فاعلين مختلفين لسرد العبارات التي ينقلها عن الآخرين. هذا الاستشهاد (كما بقية السرد في الرواية) كأنه تدوين لكلام منطوق وليس تحريرا لنص…”.

    ويتابع باشا “وفي موضع آخر يحكي الراوي بذات الطريقة السردية، حوارا سمعه في بار بينما كان يشتري سجائر. هذا الحوار يقوم على مفردات ‘عامية’ أرجنتينية، أسلوب كلام ومخاطبة كما يظهر في الأفلام، وكما يتكلم الأفراد العاديون يوميا. ولهذا، في هذا الجزء، قمنا باستخدام تعبيرات عامية مصرية والأسلوب الحواري العادي اليومي. ويبدو من الأهمية بمكان رسم أو إيضاح السياق الأدبي والثقافي والتاريخي الذي صدرت فيه هذه الرواية، الأولى لمؤلفها ريكاردو بيجليا بعد مسيرة طويلة في العمل الثقافي سواء كمحرر أو كاتب للقصص. هذا العمل الفارق والمغاير لمعظم إن لم يكن كل ما كان يصدر باللغة الإسبانية في تلك الفترة، 1980 كان رهانا على تغير الذائقة والانتقال من شكل أدبي إلى آخر”.
    أسلوب أدبي




    يلفت المترجم إلى أنه في تلك الفترة التي صدرت فيها الرواية كان تيار الواقعية السحرية في أوجه إبداعيا وتجاريا. بعد عامين من صدور هذه الرواية سيحصل الكاتب الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز على جائزة نوبل. وقبلها بسنوات عديدة كان ماركيز وماريو بارغاس يوسا قد أصدرا بالفعل أعمالهما مثل “مئة عام من العزلة” و”حرب نهاية العالم”.

    وفي ذات الوقت كان المبدعان الأرجنتينيان الشهيران الباقيان على قيد الحياة، خورخي لويس بورخيس وخوليو كورتاثر، في سنواتهما الأخيرة، وكتابتهما الأخيرة تحظى بالاحتفاء والتقدير نظرا إلى تاريخهما الكبير الفريد في الأدب العالمي وليس المكتوب بالإسبانية فقط. بورخيس كان قد أصدر مجموعته القصصية الأشد أهمية “حكايات”، ومجموعته الشعرية التي لا تضاهى. ومر ما يقرب من عشرين عاما على صدور “لعبة الحجلة” لخوليو كورتاثار.

    ويؤكد أن الطرح الأسلوبي والموضوع الذي تتناوله هذه الرواية يدشنان لروايات بيجليا التالية حيث تتجاوز وتمتزج أجناس أدبية متنوعة، ما بين الرواية التاريخية وأدب الرسائل والرواية التشويقية أو الاستقصائية. وبالإضافة إلى هذا، وربما هو الأشد أهمية، لا تخلو الرواية -على لسان الشخوص- من تنظيرات حول الأدب والكتابة وتاريخ الأدب العالمي، ملقية الضوء على نقاط وتفاصيل ألمعية.

    ورغم حجم الرواية المتوسط، 220 صفحة في الأصل الإسباني، فإنها تتناول عبر قسميها تحليلا وسردا (من وجهة نظر الشخوص وما حدث لهم) للتاريخ الأرجنتيني خلال مئة وخمسين عاما من الانقلابات العسكرية والخيانات والانتصارات والانكسارات.

    وفي القسم الثاني وبذات الطريقة يتم تناول الأدب العالمي والأرجنتيني على لسان الشخوص أيضا، من خلال ذات مصائر وأقدار الشخوص، ليس على المستوى العام فقط. لا تكاد تمر الأسطر دون حدث ما يقع للشخصية، أو تذكر فكرة أو رأي له مرتبطين بما هو آت. لعل هذا الأسلوب هو الترجمة الأمينة لمقولة بورخيس وبيوي كارساريس في مقدمة كتاب “مختارات من الأدب الفانتازي” حيث قالا (والأرجح هذا هو رأي بورخيس) إن ما يهم في الأدب هو الحدث، والتشويق. فيما عدا ذلك فهو لغو وتحليل نفسي يمكن الاستغناء عنه.

    وفي ذات الوقت يقوم بيجليا في كتابه بنقيض هذا، أو أنه يجمع بين النقيضين؛ الأول هو الاهتمام بالأحداث والوقائع والإيقاع السريع لها. والنقيض الآخر. ويمكننا أن نقول إن بيجليا محق في مقولته إن الزمن تجاوز الواقعية السحرية.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    محمد الحمامصي
    كاتب مصري
يعمل...
X