من حكايات الصيف المُسلِّية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • من حكايات الصيف المُسلِّية



    من حكايات الصيف المُسلِّية
    كمال عبد اللطيف
    آراء
    (محمد القاسمي)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    أيُّها الموتُ، انتظر؟ حتى أُعِدَّ حقيبتي:
    فرشاة أسناني، وصابوني، ومكينة الحلاقة، والكولونيا (...)
    هل المناخُ هناك مُعتدلٌ؟
    وهل تتبدّل الأحوال في الأبدية البيضاء
    أم تبقى كما هي في الخريف وفي الشتاء؟
    وهل كتابٌ واحدٌ يكفيني لتسليتي مع اللاّوقت أم أحتاج مكتبةً؟

    (محمود درويش)


    سمعت خبر وفاتي، وأصبحت ضمن الأقلية المحظوظة من البشر، التي يُتاح لها إمكان سماع خبر وفاتها في الحياة... وإليكم
    الحكاية كما تَمَّت ذات مساء... فمنذ أيام قليلة تلقيت مكالمات هاتفية عديدة من مجموعة من الأصدقاء، وكان أصحابها يسألونني في البداية سؤالًا غريبًا: من معنا على الخط؟ فكنت أجيب السائل بسرعة: أنت تطلبني وتسأل من معك في الهاتف؟ فيبدأ من هَاتَفَنِي في القول بصوتٍ مُتردّد وخَافت، إنه يريد التأكد من صوتي، ومن كوني ما زلت حيًا أرزق، ما زلت أقرأ وأكتب وأنام وأسافر... ثم ينقل لي الخبر المتداول مصحوبًا بصورتي، في بعض وسائط التواصل الاجتماعي...
    لم أستسغ المسألة في البداية، أو بالأحرى لم أفهمها، بالرغم من معرفتي بأنه تَمّ تداولها فقط داخل فضاء الشبكات... وهو فضاء لا حدود له، رغم التقاطعات التي يقيمها مع عالمنا... لم أكن في وضع صحي يدعو إلى الخوف، أو إلى الشعور بما يرتبط بخبرٍ مُماثل... ومن عادتي أن لا أتحدث في هذه الموضوعات حتى مع نفسي... صحيح أنني لم أعد أتردّد منذ سنوات، ولأسباب متعدّدة في التفكير العارض والسريع في الموت، وأكتب عنه أحيانًا... إلا أن اهتمامي به ظل مقتصرًا على لحظات عارضة وسريعة... فكيف اختارني من نَشَر الخبر وعَمَّمَه في الشبكة في عز الصيف؟ اختارني في فترة اعتدت فيها أن أمارس نوعًا آخر من الحياة داخل الحياة... فنحن لا نحيا بوتيرة واحدة، ولا نتذوق طعوم الحياة، ولا نقترب من معانيها من ممرات واحدة... إننا نسلك ونحن نَعْبُر لحظاتها من دروب ملونة... وهي تمنحنا في كل حين مذاقات مختلفة.
    "لا نحيا بوتيرة واحدة، ولا نتذوق طعوم الحياة، ولا نقترب من معانيها من ممرات واحدة"
    لم أفهم لماذا تَمّ اختياري للقيام بدور محدد في حكاية مماثلة؟ وما تأكدت منه وأنا أسمع الخبر، وأتابع بعض الردود عنه، أن من دَوَّنه وألقاه في طاحونة التداول الشبكي لا يعرفني، أو لعله يعرفني جيدًا... واُرَجِّح أن يكون قد قرأ بعض اليوميات التي كتبت زمن كورونا، خاطبت فيها الموت، وأشرت إلى أنني كنت لا أعرفه، وأصبحت اليوم أرى عيونه... فتصوّر أنني التقيته. أفترض أن مدوّن الخبر انطلق من روح اليومية التي ذكرت، وكان عنوانها سمعت به، وأصبحت الآن أعرف عيونه... وقد تَصَوَّر أنني صَافحتُ الموت وعانقته، وأن الأمر قُضِي بكثير من البساطة والنعومة...
    لم أتوقف منذ سنوات من الحديث عن الحياة، وأتصور أن من يتقنون الحديث عن الحياة يمتلكون القدرة أيضًا، على كتابة بعض النصوص عن الموت... أقول كتابة نصوص مُسلِّية عن رحلة الموت بعد الحياة. وقد كتبت قبل سنوات قليلة نصًا شذريًا بعنوان: "السماء السابعة"، خصصته لرسم المعالم الكبرى للموت في الحياة، حاولت فيه رصد بعض التحولات التي حصلت لي، وأنا أنتقل من الحياة إلى عوالم الموت... في المقال المذكور نقرأ ما يلي:
    أنت الآن تَسْتَرِقُّ السمع، فلا تسمع شيئًا... لا تذكر متى بدأت تَسْتَرق السمع. وقبل ذلك، لا تدري كم مَرَّ من الزمن على مغادرتك لبيتك وأهلك، مغادرتك للأمكنة التي استأنست بها، ولكل من استأنست بأصواتهم ورنينها... ولا تدري هل الأصوات التي تلتقطها اليوم، وأنت تسترق السمع من بعيد تتعلق بمن تعرفهم من أهلك وأصدقائك، أم أنها مجرد أصوات متطايرة تَصِلُ مَسامعك، ولا علاقة لك لا بأصحابها ولا بمن تصدر عنهم... أصوات تَعْبُر بجوارك فتلتقطُها مسامعك، ثم يَخفتُ صداها فتنقطع...
    عبدالله العروي تعرض لإشاعات الموت أكثر من مرة واحدة
    تنتقل أحيانًا من سماع غَمْغَمَاتٍ صادرة عنهم، إلى التقاط ما دونها من حركات صوتية بلا طنين ولا رنين... فتلتقط أصوات الصمت لتزداد حيرتك ويزداد تطلعك لمعرفة أحوالهم وما يدور بينهم ويتقاسمونه... يشدك الشوق والحنين إلى بعضهم، يشدُّك الشوق إلى أصواتهم وحكاياتهم وضحكاتهم... ويشدُّك الحنين إلى غُنج ودلالِ بعضهم... تُحَدِّث نفسك عنهم واحدًا تلو الآخر فتبتسم، ثم تنتابك لحظاتُ صمتٍ تطولُ أو تقصرُ... تَلِج أبوابًا لا عهد لك بها، تواجه لَحظات صمتٍ تتخللها لحظات بكاءٍ بِلَا عويل، لحظات بكاءٍ بدموع من الجمر حارَّةٍ وحارقة...
    يمكن أن يكون صاحب الخبر قد قرأ لي مقالة أخرى عنونتها أصوات بعيدة... ففيها أقترب من الموت في الحياة. أتحدث عن أصوات الأحبة والأصدقاء، وقد اختلطت الأمور على قارئ المقال فاعتقد أنني غادرت... أو كما أقول دائمًا سافرت... فقد كتبت في هذه الأخيرة بعض ما يوحي بالسفر والموت... كتبت بصيغة تشير إلى شخص آخر:
    لا يتذكر متى بدأ يسترق السَّمع، كما لا يعرف هل هو فعلًا يسترق السمع، أم أنه يتوهَّم ذلك فقط. لم يعد يدري كم مَرَّ من الزمن على استكانته باردًا، ثم مغادرته لبيته وأهله، مغادرته للأمكنة والفضاءات التي استأنس بها، وابتعاده في الوقت نفسه، عن كل من استأنس بأصواتهم ورنينها، واستأنس بانفعالاتهم، صخبهم وحكمتهم، إنه لا يدري وهو يُغادر أمكنته القريبة والبعيدة مسافرًا، كم مَرَّ من الزمن على رحيله وابتعاده عن الأحبة من الأهل والأصدقاء... إنه اليوم لا شيء.
    "لم أتوقف منذ سنوات من الحديث عن الحياة، وأتصور أن من يتقنون الحديث عن الحياة يمتلكون القدرة أيضًا، على كتابة بعض النصوص عن الموت"

    بادرت الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة، كما بادر بعض الزملاء، لتكذيب خبر الموت، خبر المتاجرة بالموت في الحياة، وأعلنوا أنني ما زلت حيًا، بل ما زلت أستطيع الكتابة عن الموت والحياة والحب والجمال والتقدم... وذكَّرت بعضهم بأن هذا النوع من اللعب الأسود يُعَدّ من نتائج تقنيات التواصل الاجتماعي الجديدة، وأن زملاء عديدين تعرضوا له قبلي، وأن الأستاذ عبد الله العروي تعرض له أكثر من مرة، وكتبت مقالة في الموضوع بعنوان: "من يقف وراء إشاعة موت عبد الله العروي؟" أردّ فيها على من اختار اللعب باسم الموت والحياة، كتبت فيها ما يلي:
    يقف العروي بعيدًا عن الأضواء والضوضاء، ليترك لإنتاجه الغزير والمتواصل تركيب الأضواء التي يمكن أن تساهم في إنارة دروبنا ومعضلاتنا في السياسة والثقافة والتاريخ. إنه البعيد القريب، يُسَاجِل بِتَرَفُّعٍ، يخاطب النخب السياسية والمثقفة، يُشخِّص عِلل المجتمع والثقافة العربية بروح تاريخية، يتسلح بالتاريخ المقارَن، ويؤمن بواحدية التاريخ البشري وتنوعه، يعلن مواقفه بشجاعة، يقيم تمييزًا صارمًا بين مستويات التحليل ونتائجه. تتعزز مواقفه وخياراته بمتانة تكوينه التاريخي، وإلمامه بتاريخ الفلسفة السياسية الحديثة. وعندما ترتفع أصوات المدافعين عن التعليم باللغة الدارجة، ينتفض مدافعًا عن اللغة العربية... وعندما تتعالى أصوات فقهاء الظلام داخل الشبكات، يتحدث لغة التاريخ والتقدم... يبرز أهمية الاجتهاد والنقد، وأدوار العقل والعقلانية والتنوير في الحاضر العربي... يُتَرْجِم دين الفطرة لروسو انتصارًا لقيم العقل والتسامح والحرية.
يعمل...
X