حنظلة يعود مجدّدًا...

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حنظلة يعود مجدّدًا...



    حنظلة يعود مجدّدًا...
    كمال عبد اللطيف
    آراء
    شارك هذا المقال
    حجم الخط


    لم يعد حنظلة مِلْكًا لناجي العلي وحده، وأتصوّر أنه تحول إلى عنوان دائم لفلسطينيي المخيمات، داخل أرض فلسطين وخارجها... لم يعد يمثل مخيم عين الحلوة، وهو لا يشير فقط إلى فلسطينيي الشتات في مشرق الأرض ومغاربها... إنه اليوم في ألبوم رسوم ناجي العلي، يشير إلى الفلسطيني المُقاوِم والمتشبث بمشروعه في تحرير الأرض والتاريخ والإنسان... الفلسطيني المُقاوِم حتى عندما يبقى وحيدًا أعزل، يعانق تاريخه وقضيته في جميع أطوارها وفصولها، حروبها وشهدائها، انتفاضاتها ومعاهداتها. حنظلة اليوم هو عنوان الفلسطيني، المتطلع إلى خلاص يمكنه من استرجاع أرضه وتحريرها، بالرغم من كل ما آلت إليه أوضاعه العامة، وأوضاع محيطه العربي منذ ثلاثة عقود من الزمن، أي منذ اتفاق أوسلو ومبادئه وإجراءاته المُعطَّلة، وهي أوضاع ساهمت في رسم جوانب من مآلات الأحوال السائدة اليوم في فلسطين المحتلة.

    دفعت التغيرات التي حصلت في فلسطين وفي العالم العربي، دفعت حنظلة إلى مغادرة الإطار العام للصورة، التي كان عليها في رسوم وحكايات ومواقف ناجي، قرّر أن يكبر ويرفع صوته، قرّر أن لا يكتفي بالرسوم والعبارات القصيرة والحادة... قرر أولًا أن يلتفت ليرانا... يرى نفسه أولًا شهيدًا، جريحًا منتفضًا، منقسمًا، يرى حاله في جميع تحولاتها... قرر التصالح مع ذاته في مختلف أطوارها. كما قرر أن يرانا، وهو جزء منا، يرى العرب وهم محيطه الجغرافي والتاريخي وبدون إذن أحد، وهو يعرف جيدًا أن فلسطين تشكّل العمق التاريخي للشام الكبرى.

    التفت حنظلة ليرى عيوننا ونرى عيونه. كان دائمًا يرانا، حتى عندما كان غاضبًا حافيًا بثياب ممزقة. كنا نرى الشمس فوق رأسه، ونرى فلسطين في عينيه وفي كلماته. وقد انخرط طيلة حياته في محاورتنا بجمله القصيرة، وملاحظاته التي لم يكن يتردد في جعلها تعبر عن مواقفه وخياراته السياسية. انتقد كثيرًا أخطاءنا، وعكست مواقفه كثيرًا من الرفض لجوانب من خياراتنا السياسية.

    لم ينتقد حنظلة القيادات والطلائع الفلسطينية وحدها، كان ينتقد نفسه أيضًا، بل انتقد بعض المواقف العربية والدولية، من كثير من المسارات والأحداث والحروب، التي تواصلت طيلة القرن الماضي، من أجل تحرير فلسطين وعودة اللاجئين. ومن حسن الصدف، أن موت ناجي لم يوقف الحضور المتواصل لحنظلة بيننا. فقد ظلت رسومه تساهم في إضاءة جوانب من مسارات الصراع الفلسطيني العربي مع الصهيونية، ومع من يسند ويرعى وجودها كأداة استعمارية في المشرق العربي. وعندما نفحص ونراجع مجموع مواقفه، ندرك أنه ما زال يخاطبنا، كما خاطبنا بالأمس وبالروح نفسها، روح التحرير، روح المشروع الوطني الفلسطيني. إلا أن خطابه اليوم يتميز بأسلوب خاص، إنه يعكس جوانب من دروس معارك شرسة تواصلت مع الصهيونية ومعسكرها، الهادف إلى اختراق مشروع استكمال التحرير ومشروع النهضة العربية.
    موت ناجي العلي لم يوقف الحضور المتواصل لحنظلة بيننا
    فوجئ حنظلة بدرجات التراجع العربي، وبخطورة الانقسامات التي شملت الصف الفلسطيني وطلائع النخب السياسية الفلسطينية، وأدرك أن الاندحار الحاصل اليوم في المسألة الفلسطينية، يتحمل فيه الفلسطينيون كما يتحمل العرب النصيب الأكبر من المسؤولية. قرّر مواجهة المصير الفلسطيني والعربي بوضوح وشجاعة كما عوّدنا في كل رسومه وكلماته. قرّر مخاطبة قيادة منظمة التحرير بالمفردات التي كان يخاطب بها ياسر عرفات. كما قرّر مواجهة القائمين على تدبير قواعد الحكم الذاتي في الضفة وفي القطاع، رغم معرفته بصعوبة المواقف التي قرّر الالتزام بها وبقوة وحزم. قرّر أيضًا، أن يرفع صوته غاضبًا في وجه المُطبّعين، كل المطبّعين وكل الذين ينتظرون أدوارهم التطبيعية، قرّر مخاصمتهم، كما قرّر مواصلة رفع راية المقاومة والتحرير.

    عندما التفتَ غاضبًا ليرانا، اكتشفنا أن صورته تغيرت، إنه يقف أمامنا اليوم وقد أصبحنا نرى عيونه، وقفته الصامدة، ونظرته المُوَجَّهة صوب أحوال ومآلات العرب والفلسطينيين. نرى نظرته المصوَّبة نحو التنظيمات السياسية الفلسطينية، ونحو النخب والجماهير العربية. التفت ليرانا بعد أن بلغ من العمر أكثر من ستين سنة وقد غزا الشيب مفرقيه. وقف أمامنا متشبثًا بما عوَّدنا عليه طفلًا، وقف رافعًا كلماته النارية والمشفوعة بالأمل والثقة، رغم كل مظاهر الوهن التي تملأ المحيط العربي، وتحاصر القضية الفلسطينية. التفت ليقول لنا بِجملٍ مرسومةٍ بخط يده الواضح، لا يمكن المتاجرة بالقضية ولا بمآلات أهلها. التفت ليذكرنا بمخاطر الصهيونية وأدوارها، وتوقف أمام صور وأشكال المقاومة الجديدة، والآفاق التي تُواصِلُ فتحها من أجل وقف الغطرسة الصهيونية والاستيطان الإسرائيلي، ومختلف أشكال العنصرية والعنف والبطش التي تواصل إسرائيل القيام بها. التفت لينخرط مجددًا في تيار دعم المقاومة، دعم مواصلة مقاومة الصهيونية ونقد من يقف وراءها.
    "فوجئ حنظلة بدرجات التراجع العربي، وبخطورة الانقسامات التي شملت الصف الفلسطيني وطلائع النخب السياسية الفلسطينية، وأدرك أن الاندحار الحاصل اليوم في المسألة الفلسطينية، يتحمل فيه الفلسطينيون كما يتحمل العرب النصيب الأكبر من المسؤولية"
    عاد حنظلة في الوقت المناسب، حيث الحاجة ماسة إلى مزيد من توسيع تيار المقاومة، وكنت قد تذكرت رسومه وأحرفه وكلماته، وأنا أراقب تصاعد أعداد المطبّعين، وتمنيت أن يعود لمساعدتنا في مجابهة مخاطر التطبيع. وعندما التفت ليرانا وينخرط في أفعال المجابهة المتواصلة، رغم كل أشكال الفتور التي تعتريها فَتُغَيِّبُها، سعدت بحضوره الجديد، وهو يُوَجِّه خطابه للمطبّعين الجدد والقدامى. فقد كنت أعرف أنه عاد لفضح أساليب الصهيونية في اختراق المجتمعات العربية، في المشرق وفي الخليج وفي المغرب، واتجهت رسومه الجديدة لبناء ردود فعل قوية عن رفضه للتطبيع والمطبّعين.

    يقف حنظلة وقد أصبح اليوم يحمل أَوزارَ قضية عَمَّرَت طويلًا، قضية لم تتمكن أجيال من الوطنيين الفلسطينيين من إيجاد حلٍّ، لما ترتب عليها في أرض فلسطين وفي المحيط العربي. كَبُر حنظلة وهو يستمع اليوم لزغاريد المطبّعين الجدد، إنه يقف اليوم بيننا صامدًا، يرتب أحواله في قلب العاصفة، يصرخ صامتًا ويكتب بخط جميل، لا تصالح لا تصالح. يغني بصوت مبحوح، لا تصالح اليوم، ولا تصالح غدًا.

    يقف حنظلة اليوم بيننا، وهو يعرف تمام المعرفة أن مشكلتنا اليوم عَمَّرت طويلًا، إنه يعي مجمل التحولات التي لحقت بها، منذ اتفاق أوسلو وتدابيره الإجرائية. كما يعرف خطورة الانقسام الفلسطيني، وأدواره في تغييب روح المشروع الوطني الفلسطيني، وفي تزايد عدد المطبعين واستهتارهم بقيم العروبة والتقدم، فكيف يُواجه كل هذا؟ وكيف يمكنه أن يساهم معنا في بناء الطريق المفضي إلى إعادة تفجير طاقات الشعب الفلسطيني المكلوم والمهزوم، وقد نزلت بأرضه وسمائه الصواعق والمتفجرات، لتحطم آماله الكبرى في الاستقلال والتحرير، وعودة اللاجئين وحفدتهم إلى أرض الأجداد؟ وكيف يحرك درجات السكون المرتبط بصور ودرجات الوهن العربي؟ ولأن حنظلة كان يبكي وحده عندما كان صغيرًا، أسفل أو أعلى أو وسط رسومات ناجي، ولأنه اليوم تجاوز ستة عقود من الزمن، بكل ما لها وما عليها. ولأنه لا يرتاح كما عودنا صغيرًا للبكائيات، فقد انخرط في العمل، انخرط في الرسم والكتابة وقول ما نعجز عن قوله، انطلق لاحتضان قضيته، قضيتنا وقضية الأحرار في العالم، احتضان المشروع الوطني الفلسطيني.
يعمل...
X