"حديقة غودو": تداعيات صدمة الوطن وجوديًا وعاطفيًا

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "حديقة غودو": تداعيات صدمة الوطن وجوديًا وعاطفيًا



    "حديقة غودو": تداعيات صدمة الوطن وجوديًا وعاطفيًا
    دارين حوماني
    مسرح
    أدهم الدمشقي وغودو
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    تنطلق مسرحية "حديقة غودو" للمسرحي والشاعر والفنان التشكيلي أدهم الدمشقي من اضطراب ما بعد صدمة الوطن الموجوع من جراء انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/ أغسطس 2020، وقد عُرضت على مسرح مونو في بيروت خلال الشهر الحالي.
    عمل متعدّد الوسائط يجمع فيه الدمشقي مسرحه وشعره وفنه في صوغ شعري وإنساني عميق، ويكتب في الإعلان عن العمل: "هي مسرحية كتبها وأخرجها غودو وأدهم الدمشقي"، وغودو هو الكلب الذي تبنّاه الدمشقي وتشاركا معًا انفجار مرفأ بيروت خلال تنزههما اليومي عند الساعة 6:08 مساء، ليس بعيدًا من المرفأ. يشارك في بطولة العمل، إضافة إلى غودو والدمشقي، عدد من المسرحيين؛ ضنا مخايل، يارا عماشة، ألكسندر معوشي، إلياس أيوب، شادي أحمدية، توفيق صفاوي، رجا الزين، جاد حجار، وعدن سمعان.

    مكان شبه مظلم مع طاولة وكرسي ودفتر يكتب عليه الدمشقي يومياته واعترافاته بعد الانفجار ويقرأها لنا. يستمع إلى أم كلثوم "ما بين قربك وخوفي عليك... ما بين بُعدك وشوقي إليك..." منفصلًا عن حبيبته بعد علاقة فاشلة حيث يطلب منها الخروج من المنزل وأن تعطي مفتاح البيت لأول شخص تلتقيه، ورغم كل محاولاتها لإعادة العلاقة إلا أن الشاب يفضّل أن يكون وحيدًا. بعد خروجها بأسبوعين سيتبنّى الدمشقي الكلب غودو ليصير رفيقه المنزلي. يقيم أدهم الدمشقي في حي الجعيتاوي (الأشرفية) القريب من مرفأ بيروت والذي تضرّر بشكل كبير من الانفجار. سينقل لنا الدمشقي إحساس الساعة 6:08 عصر ذلك اليوم إلى المسرح، إحساسه وإحساس سكان مدينة بيروت، وخصوصًا الأقرب مكانيًا إلى المرفأ، حيث ستتحول حديقة منزله شبه المدمّرة إلى وطن بديل يجرّب فيها وغودو تداعيات الصدمة وجوديًا وعاطفيًا. يكتب الدمشقي "الإحساس بالانتماء إلى بيروت مثل عاشق نرجسي يجذبك بشكل متكرر ثم يتجاهلك".
    الدمشقي يكتب اعترافااته ويقرأها
    هي مسرحية مختلفة، تتسلّل فيها عدة التجريب والتنوّع الفني. يمكن أن نحكي عن مسرح جديد يحاول الدمشقي بناءه. يمتلك الدمشقي عدّة الفنون والشعر، عدّة الشغف أيضًا لكل أمكنة بيروت. سنكون أمام عدد من اللوحات الموجوعة في عرض واحد وحيث يقدّم كل ممثل لوحته الخاصة أو الجماعية، والتي ليست سوى مشهديات من التداعيات النفسية عما بعد الانفجار. إحدى اللوحات، موظف لتوصيل "السندويشات"، يدخل من باب الصالة، يعطي الطلب للفتاة الجالسة بين المتفرجين، يتضايق الجالسون من رائحة الثوم القوية، فجأة تسأل الفتاة بصوت عال: "مين بحب يكمل السندويشة؟"، وتخرج من بين الجمهور إلى خشبة المسرح وتؤدي دورها أمام مرآة معلقة على الحائط حيث تستمر بشطب وجهها بقلم التلوين الأسود حتى آخر العمل.

    لوحة أخرى عن حبيبة أدهم التي تقف خارج خشبة المسرح وتطلب من الجمهور أن يضيء لها المكان لتحكي لنا يومياتها مع حبيبها. بلغة غير مفهومة تحكي بغضب عن محاولة استعادة العلاقة لكن حبيبها يفضّل أن يكون مع غودو بدلًا منها "مبارح طلبت مني رفيقتي بأني لازم كون واقعية... خلص بكرة بس صير واقعية رح انتحر".

    نحن أمام عدد من الأجساد التي تحاول تفكيك الصدمة. كل جسد يحكي قصته في نص بصري على هيئة الموت، متفاديًا الموت. أصوات متعددة من شخوص تقف على خشبة المسرح تؤدي اضطرابها مصحوبة بالسكون أو بموسيقى البيانو التي يعزفها ميت آخر "تزورني في رأسي: قم انتحر. أفتح نافذتي وأهوي على ورقة"... "لأجل الوحدة قتلت جميع من أحب، عفوت عن ذاكرتي، منعت الآتي عن الآتي"... "ما بعرف إيمتا وليش نمت عل الكنباية، فئت لقيت حالي رجل كبير ساكن ببيت ما بيشبهني ولازم أتعود عليه".

    ثمة موجوع آخر يقف داخل خزانة يلطّخ وجهه وصدره بخطوط سوداء ويردد "ليتني أستطيع خلع رأسي كما أخلع حذائي قبل أن أنام"... سنرى أيضًا صبيًا يبيع البالونات الملونة يقف بلا حراك، كان عند مرفأ بيروت وقت الانفجار، بقي واقفًا هناك بلا حراك. أخرى تقف محنية الرأس، هنا صدمة الموت بأشكال متعددة. كثافة مشهدية مخزّنة بالشقاء؛ عربة تجر رجلًا مقتولًا، يصعد عليها الممثلون، كل ممثل يأخذ وضعية موت ما، فيما الدمشقي يردّد: "مثلك أنا يا بيروت موتي مؤجل وحياتي مؤجلة، على جلدي عرق ورماد وعيناي مفتوحتان للسماء، بيتي مقبرة فنية تعج بالكتب والألوان والموسيقيين والشعراء لكننا لسنا هنا. أرى بيتي من بعيد شاحبًا كالمقبرة. هذا البيت المسكون بالأشباح والموسيقى... ألوان بيروت عند الانفجار... هذه الألوان لي... أزرق البحر لي، وهذا الأصفر والأحمر... حين أفتح شفتي يبتلع البحر فمي"، وعلى العربة نرى بيانو والمقتول المنحني عليه يعزف موسيقى سترافق الدمشقي في أدائه الشعري.




    أحدهم يعلّق عددًا من لوحات الدمشقي على حائط المسرح، والتي كان قد عرضها في معرضه "عنبر" عام 2021 الذي أقامه في منزله في الجعيتاوي، وتضمّن أعمالًا تعكس اللحظات الصادمة التي عاشتها بيروت. وعلى الأرض، غودو يأكل، ينام، يلحس جسده، وحين يصرخ له الدمشقي بصوت عالٍ، يتفاعل معه ويحضنه بقوة في مشهدية تعكس شعور لحظة الانفجار؛ "تخيلوا إنو الكلب حسّسني بأمان، دولتي ما حسّستني فيه. من وقتها، صارت جنينة غودو هي وطني البديل وما عاد فيه شي برات هل الجنينة يعنيني. منموت من انفجار، منموت من هزة، منموت من كورونا، ما عاد شي برات الجنينة يعنيني...".

    "وددت لو أضع رأسي حجرًا ثقيلًا بين كفيّ وأبكي..."، يشعر الدمشقي بالذنب منذ أزمة الدولار كلما رغب بشراء ألواح الرسم والألوان والناس من حوله تتضور جوعًا. يحكي كيف يملأ الاكتئاب جسده، كيف يصبح العالم سريرًا وكيف أنه حين يفتح عينيه يشعر بأن لوحاته المعلقة على حائط بيته أصغر من بعوضة نافقة، وبأن جسده الخامل أثقل من دابة لا تصلح حتى للذبح. يقاوم فراغه العاطفي الفني بالاستسلام لكل ما يحقق المتعة السريعة... "عبثًا تفلح كل أكياس الأرز والمعلبات في إشباع فقري وحزني على ما خزّنته الثلاثين الضائعة من عمري في هذا الوطن من خيبات وطعنات وهرولة... أرغب بأن أحضن هذا الوطن بذراعي المبتورتين". تقودنا لغة الدمشقي إلى بيروت ما بعد الانفجار وأزمة الدولار، يقترب من بيروت خلال ثورة تشرين، خليط من القلق والحزن يؤدي بكائنات بيروت إلى الجنون أو الموت. تردد إحدى الشخصيات: "لأجل الوحدة أكره الموت، ولأنهم أقنعوني يوم كنت طفلة أننا بعد الموت سنلتقي جميعًا"... "النوم بديل عن الانتحار... النوم موت مستعار... لأجل الوحدة أعشق جسدي لأنه لا يصلح إلا لحياة واحدة"، ثم وبلغة محكية يقول الدمشقي: "مبارح أنا وعم مشّي غودو، سألت حالي: معقول عم عيش هل الحياة المجانية تأوصل للانتحار بسلام، لحتى ما حس إني عم أخسر شي مهم بحياتي".

    بيروت ما بعد الصدمة، صور ومشهديات متوترة، حزينة، اشتغال بصري متعدد، تظهير صور اعترافية عن انفجار مرفأ بيروت على طريقة المسرح مع الشعر مع التشكيل مع خلفية موسيقية مع قلق بيروت. يأخذ الدمشقي من الماضي صورة ويركّبها على حاضر مضطرب. ثمة قراءة تسجيلية لأحوالنا جميعًا، لا يبتعد الدمشقي عن وجعنا، ما أدخله في العمل داخل فينا أيضًا، يخصنا أيضًا. أدهم الدمشقي، وهو المحاضر في العلاج بالفنون والتنمية الذاتية، يقرر أن يطبّق هذا العلاج على غودو المضطرب؛ غودو بيكيت لم يعد، أما غودو الدمشقي فقد عاد بعد الانفجار راكضًا يفتش عن منزلهما ويحضن صاحبه أمام البيت المحطم، "صرت أركض وكل شي عم يركض بعكسي، غودو صار عندو إجرين كتير"، وقتها خاطب الدمشقي صاحبه: "غودو ليش ما بتكتب؟"، ويحكي لنا كيف فتح غودو اللاب توب وكتب قصته ومشاعره وقت الانفجار، والتي نشرت في اليوم التالي في إحدى صحف بيروت. يقول الدمشقي: "يا ريت عندي ذنب كلب لفرجيكن أديش مبسوط إني عايش ببيروت!"... ثم يضحك الجميع ضحكة الرعب، ضحكة الموت المتمدد فوقنا جميعًا، يرتبون الكراسي على المسرح، ليست سوى كراسٍ لتأبين بيروت...



    أدهم الدمشقي: حائز على الماجستير في الفنون التّشكيليّة والدبلوم في فنِّ المسرح والتَّمثيل، وشهادات تدريبيّة في العلاج بالدراما. ويدير ورشًا تدريبيّة في الأدب والمسرح. قدّم معرضين فرديّين تناول فيهما مقاربة لاضطراب ما بعد صدمة الرابع من آب: "عنبَر 2021" و"عبيط 2022". وقد حوّل منزله بعد الانفجار إلى فضاء ثقافي سمّاه "عنبر" وقدّم فيه عددًا من المهرجانات الثقافية والفنّية المجانيّة. كما أصدر خمسة كتب شعريّة مُترجمة إلى الألمانيّة، الأرمنيّة، الإنكليزيّة والفرنسيّة، وأعدّ وكتَبَ وأخرجَ مجموعة أفلام وثائقيّة.
يعمل...
X