دييغو رودريغيز ڤيلاسكيز Diego Vélasquez مصوّر إسباني، ولد في إشبيلية وتوفي في مدريد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • دييغو رودريغيز ڤيلاسكيز Diego Vélasquez مصوّر إسباني، ولد في إشبيلية وتوفي في مدريد

    ڤيلاسكيز (دييغو رودريغيز سيلفا ـ)
    (1599ـ 1660)

    دييغو رودريغيز ڤيلاسكيز Diego Vélasquez مصوّر إسباني، ولد في إشبيلية وتوفي في مدريد. كان سليل أسرة برتغالية نبيلة، وأمير المدرسة الإسبانية بلا منازع، ومصور الملك فيليب الرابع Philippe IV، ومثالاً فريداً إن بمصيره وقدره أو بأعماله وآثاره، وعبقرية تفيض عطاء، ورجلاً حظي بصداقة الملك واحترام حسّاده لاستقامته وكياسته. كانت حياته كريمة وحكيمة، لم تعكر صفوها الأحداث على الرغم من تقلّباتها، ولم تزعزعها اضطرابات البلاط وقلاقله. سيرة حياة باهرة ومحتشمة، يُذكِّر ارتقاؤها بمسيرة روبنز[ر] Rubens.
    دييغو فيلاسكيز «المسيح في دار مارتا وماري» (1620)
    حظي ڤيلاسكيز بتعليم جيد، وتعلم شيئاً من اللاتينية والفلسفة، وجرب دراسة العلوم، ثم أعلن عن رغبته في أن يكون مصوراً، فأذعن الأهل دونما مقاومة. التحق تلميذاً بمرسم هريرا Herrera، فغادره بعد قِصَرِ إقامة لنفوره من قسوة المعلم وسورات غضبه، ثم راح يتلقى الدروس على باتشيكو Pacheco مؤلف «فن التصوير»حيث التعليم الصارم والعمل الدؤوب المتزن. استطاع التلميذ، منذ البدء، أن يؤكد استقلاليته وأصالة مبادرته. لم يكن يصغي للمعلم يطلب إليه الاقتداء بأساليب الطليان، بل اختط لنفسه منهجاً دراسياً سار على هديه من دون أن يحيد عنه قيد أنملة؛ فلم يكن يرسم أو يصور إلا اعتماداً على أنموذج Modéle يضعه أمامه، أو منظر طبيعي يرصده بإمعان، ومن هنا جاء هذا النتاج الحرفي والدقيق والمحكم في دراساته الأولى: طبيعة صامتة أو وجوه ذات تعابير متنوعة. ثمة متاحف تحتفظ ببعض هذه الدراسات التي تنم على شيء من التردد وفيها كان ڤيلاسكيز يجهد في ترجمة ما يراه ترجمة حرفية ضيقة، وفي استخدام أفضل السبل والوسائل للإفادة من اللحظات القليلة التي يمنحها له من يصورهم، ثم جاءت تكويناته الأولى، وكان ظهورها بين عامي 1618ـ1623: «عبادة الملوك» و«السقاء في إشبيلية» و«امرأة عجوز تقلي البيض» و«المسيح عند مارتا» و«حجيج عماؤوس» و«القديس بطرس» و«قاطف العنب»، إن جميع هذه الأعمال التي تعوزها الطلاوة والملاحة، هي من صنع فنان شاب تعوزه التجربة، ومع ذلك من الجدير بالملاحظة أن ڤيلاسكيز أدخل عليها نماذجه المفضلة وهي تلك الوجوه الشعبية المألوفة.
    كان لفيلاسكيز، بين كل الطرائق المتبعة، طريقة فريدة وشخصية، وقد قيل كثير عن وسائل تعبيره وخفايا تعويذاته التي كان يحتفظ بسرها، والحقيقة أن هذا المعلم لم يكن يخفي سراً، باستثناء عبقريته، إلا ما كان يقتضيه كل شيء طبيعي وبسيط وبعيد كل البعد عن التقليد والمتعارف عليه، حتى إن طريقته في الشروع بتنفيذ العمل الفني لا تنسب إلا إليه وحده، فمن غيره يجرؤ على أن يقذف بتكوينه composition على القماش من دون دراسات مسبقة، أو رسوم تحضيرية؟ كان ڤيلاسكيز يعرف ويرى بوضوح ما كان يريده.
    دييغو فيلاسكيز «وصيفات الشرف» (1656)
    استشعر باتشيكو مستقبلاً باهراً لتلميذه، إذ يقول: «زوجته ابنتي بعد أن أغراني شبابه ونزاهته وخصاله الحميدة وما يرجى لنبوغه الطبيعي العظيم من مستقبل مرموق»، ومن هذا الزواج السعيد ولدت فتاتان، ماتت صغراهما في سن مبكرة، وصارت الكبرى زوجة المصور ماتسو Mazo تلميذ ڤيلاسكيز الأثير. ونزولاً عند رغبة حميه قام ڤيلاسكيز الشاب عام 1622 برحلة إلى مدريد متأبطاً «سقَّاءه»، وحاول التقرب من البلاط ولكنه لم يفلح، ذلك أن فيليب الرابع والكونت ـ الدوق أوليفارس Olivares كانا مشغولين بالسياسة والزيجات والحروب. راح ڤيلاسكيز يفيد من أوقات فراغه في دراسة المجموعات الفنية الملكية، وزار الإسكوريال Escurial وطليطلة Toledo، وأنجز بضع صور شخصية، ثم طُلب إليه اللحاق فوراً بالبلاط في مدريد. أعجب الملك بأعماله فعينه مصوراً للبلاط، واستهوى الملك إذ صوّره خيّالاً باسلاً يمتطي فرساً تطفر، وقد عرضت هذه اللوحة على الجمهور يوماً كاملاً، فكانت موضع إعجاب العارفين ورجال الحاشية وتقديرهم. وثمة دراسة تمثل الملك يحمل ترساً فولاذياً مزيناً بالمجوهرات، وصورة ثالثة له واقفاً يرتدي زيه الأسود وفي يده رسالة، وفي هذه الأعمال يلحظ المشاهد مقدار التقدم الذي بلغه ڤيلاسكيز منذ مغادرته إشبيلية. شجع الملك الأسرة المالكة (الإخوة والزوجات والأطفال) ورجال البلاط (الوزراء والقوّاد والشعراء والمضحكين والأقزام) أن يجلس كل بدوره أمام هذه الريشة المخلِّدة. وأعطي ڤيلاسكيز مرسماً في القصر الملكي، وفيه أو على مقربة منه، أنفق أكثر سني عمره الباقية.
    أثارت حظوة ڤيلاسكيز لدى الملك، وتسنمه منصب «مصور حجرة الملك»، غيرة حساده، فزعموا أن ڤيلاسكيز عاجز عن إنجاز تكوينات كبيرة، وأنه لا يرسم إلا الرؤوس والوجوه والصور الشخصية الصغيرة. أعار الملك فيليب أذناً صاغية للمز الحاسدين، فأقام مسابقة في فن التصوير بين أربعة من المصورين، وحدد موضوع المسابقة والجائزة (منصب حاجب الغرفة = وزير)، وكانت الغلبة لڤيلاسكيز، إذ برهن على طول باعه وبلاغة ريشته، ولاسيما حين أنهى بين عامي 1628ـ1629 تكوينه الشهير والأصيل المسمى في دليل برادو «اجتماع شاربي النبيذ» والموسوم أيضاً بـ«باخوس يتوج السكارى«، إذ بلغت واقعيته في هذه اللوحة حد الكمال، وفيها صور شابين وستة من الفلاحين، وباخوس (إله الخمر) جالساً فوق برميل، يتوج بالكروم شخصاً راكعاً، في حين تحلق حولهما عشاق للكرمة أجلاف، أضنى بعضهم الكد، وأشاب بعضهم الزمن، ولعل هذه اللوحة هي الخمرية الخالدة الوحيدة في الفن الإسباني إبان العصر الذهبي، وهي تمثل خير تمثيل طرائقه التلقائية والشخصية التي استحدثها ووسم بها فنه.
    في عام 1628 قَدِمَ روبنز الفنان البلجيكي الشهير إلى مدريد في مهمة رسمية، وامتدت إقامته تسعة شهور استضافه في أثنائها ڤيلاسكيز بناء على أوامر الملك، فاقتسما المرسم ذاته، وزارا معاًَ القصور ومحتوياتها الملكية، وارتبطا بصداقة حميمة. وبناء على نصيحة روبنز المسموعة قام ڤيلاسكيز برحلة إلى إيطاليا تحدوه رغبة في زيادة معارفه الفنية ودراسة آثار الماضي من دون أن يكون لذلك أي تأثير يذكر في أصالة الإسباني الراسخة، أو أي نفوذ ملموس على أسلوبه، فنقل عن تتسيانو Tiziano وفيرونيز Véronère وتنتوريتو Tintoretto، وأمضى شهوراً عدة في روما ودارة مديتشي، حيث صوّر عن الطبيعة منظرين رائعين للحدائق وهما من التحف الفنية النادرة يمكن مشاهدتهما اليوم في متحف برادو Prado ومعهما لوحة «كور فولكان» (فولكان= إله البراكين عند الإغريق)، ولوحة «قميص يوسف»، وقد تجلى في لوحة الكور La Forge بُعد ڤيلاسكيز عن الجانب الأسطوري والتقليدي لموضوعه، بل يبدو أن ڤيلاسكيز لا يرى فيه إلا مشهداً مألوفاً وحدثاً قاسياً وواقعياً عبر عنه بطريقته وبواقعية مطلقة، فأبولو Appolon في اللوحة، وإن ارتدى ثياباً تعود إلى العالم القديم، وأياً كان الإله الذي يمثله، يظهر في اللوحة مثل رسول مثير للضحك، ويقوم بمهمته متهكماً ساخراً، أما فولكان ورفاقه فليسوا إلا حدادين فظين من العامة، صورهم الفنان على الطبيعة. وفي إقامته في نابولي أنجز صورة للأميرة ماريا infante Maria أخت فيليب الرابع وخطيبة ملك هنغاريا، وارتبط بعلاقة حميمة بالمصور ريبيرا Ribera مصور نائب الملك. وعند عودته إلى مدريد (1631) Madrid كان عليه أن ينجز صورة شخصية للملك وأن يسهم في إقامة تمثاله. وبحلول عام 1638 كان ڤيلاسكيز قد بلغ ذروة نبوغه، فأنجز لوحة «المسيح على الصليب» (1639)، وهي لوحة مأسوية مؤثرة للغاية، ثم أنهى صوراً شخصية لكثير من الشخصيات المهمة، وفيما بين 1640ـ1642 أنجز صورة الفارس التي لا تضاهى للكونت أوليفارس يقود حصانه في مقدمة جيشه.
    دييغو فيلاسكيز «الناسجات» (1657)
    كان فيليب قد أعد لفنانه أعظم مجد يطمح إليه فنان يوم عهد إليه إحياء ذكرى انتصاره المؤزر في أثر عظيم؛ وهو الاستيلاء على مدينة بريدا Breda، وكان الفنان خوزيه ليوناردو José Leonardo قد عالج الموضوع ذاته وهو فنان لا يفتقر إلى الموهبة، ولكنه ليس في مقام ڤيلاسكيز الذي قدم مأثرة من نوع مختلف، لوحة فريدة بين الموضوعات التاريخية، وفريدة في بساطتها وأصالتها وتكوينها وتناغم ألوانها، وجليلة بكبر مساحتها. وضع ڤيلاسكيز على أرض مكشوفة الأشخاص الرئيسين في المركز، يتحلّق حولهم جنود الطرفين المتصارعين، ليتيح للمشاهد رؤية القائدين جوستين ده ناسو Justin de Nassau وسبينولا Spinola، وقد تلاقى الاثنان بمودة، يتفاوضان لوضع حد لتلك الحرب، ويقوم حاكم بريدا بتسليم مفتاح المدينة إلى سبينولا في مشهد نابض بالإنسانية وآداب اللباقة وحسن السلوك، إذ يلتقي فيه بطلان ارتشفا رحيق الحضارة وحارب كل منهما في سبيل قضيته بإخلاص تام، وآمنا معاً أن لحظة الوفاق قد حانت، فتلاقيا في دماثة واعتزاز وكأنهما يعطيان للعالم درساً في الكرامة الإنسانية.
    ومن أشهر أعمال ڤيلاسكيز أيضاً »وصيفات الشرف«، قبل أن يصور بيكاسو Picasso بسنوات مجموعة من اللوحات المستقاة من أعمال ڤيلاسكيز صاح حين رؤيته تلك اللوحة: «يا لهذه الواقعية الرائعة، ويا لهذا الفوز العظيم!». وقال تيوفيل غوتييه Théophile Gautier: «هذه ليست لوحة، إنها حياة مديدة»، والحقيقة أن الأميرة الصغيرة ووصيفتها تشكلان لوحة من أكثر اللوحات فتنة وإثارة للدهشة والإعجاب في كل الأزمنة. وكما في الأعمال العظيمة ثمة مفارقة في فن فيلاسكيز؛ فحينما يتأمل المتلقي هذه اللوحة عن بعد يلحظ دقة متناهية في التنفيذ، وواقعية بلغت حدها الأقصى، وكلاهما يوحي بانطباع فريد بالعمق، وما إن يتقدم المتلقي وينظر إليها عن كثب حتى تتبخر تلك الواقعية وتذهب بدداً ليحل محلها أخيلة من العناصر المفاجئة وغير المتوقعة، فالشخصية المركزية للأميرة ألمع إليها الفنان إلماعاً وبألوان متفرقة، مما منح البشرة والثياب سمة انطباعية. لقد حقق ڤيلاسكيز هذا المشهد الساحر بلمسات بليغة ومقتضبة، وفي ذلك يقول أورتيغا إي غاسيت Ortega Y Gasset: «لايستطيع أحد، أياً كان أن يصور شيئاً مماثلاً بتلك اللمسات المعدودات».
    للترويح عن الملك الذي كان يحب كثيراً رؤية ڤيلاسكيز وهو يصور؛ جعل ڤيلاسكيز القزم إل بريمو El Primo نموذجاً له، فصوره بلباس أسود ويعتمر قبعة عريضة ويجلس في محيط ريفي وهو يتصفح كتاباً ضخماً. وكانت هذه اللوحة فاتحة لمجموعة غريبة من صور المهرجين والمضحكين والأقزام والمسوخ الذين تزدحم بهم غرف الانتظار في القصر، وقد أنجز ڤيلاسكيز هذه الأعمال تباعاً امتاعاً للملك فيليب الرابع، فجاءت تحفاً فنية لموضوعات شاذة وغريبة وغير مألوفة سجلها دليل متحف برادو تحت تعابير مختلفة.
    في عام 1657، زاغ ڤيلاسكيز عن البلاط ليصور «نساجات القماش المرسوم» فجاءت وجوهاً رائعة اقتنصها بين ضجيج العمل ووقاره. وفي السنة ذاتها تحدى محكمة التفتيش، وصدم احتشام إسبانيا وأبهجها بلوحة «فينوس روكبي» وأردافها الجميلة.
    ولابد من التنويه بلوحة البابا اينوسانت العاشر Innocent X التي أبدعها في روما ورأى فيها النقاد «أبدع صورة في روما»، ووضعها بعضهم في مصاف أروع الصور في جميع العصور، إذ تجلت فها قوة الشخصية والفن معاً.
    كان موت ڤيلاسكيز نتيجة لوظيفته، ففي ربيع عام 1660 رتب المراسم والاحتفالات التي تقرر أن تصاحب توقيع إحدى المعاهدات وخطبة الأميرة ماريا تيريز Marie Thérèse لويس الرابع عشر Louis XIV. وكان على ڤيلاسكيز أن يدبر نقل الحاشية وأن يجهز وسائل النقل لحمل الأثاث والصور وقطع النسيج المرسوم وغير ذلك من زينات، وعاد المصور التائه في وظيفته إلى العاصمة «وقد أضناه سفر الليل وكدّ النهار»، «وفي عيد تجلّي المسيح... أسلم روحه لله، الذي خلقها لتكون أعجوبة من أعاجيب الدنيا»، وما مضت ثمانية أيام حتى ووريت زوجته الثرى إلى جواره.
    فائق دحدوح
يعمل...
X