نصف الماراطون الأول أو الصدرية 1055
الجزء الثالث
كانت الساعة تشير إلى الثامنة صباحا حين أعطيت الإنطلاقة، كان علينا أن نقطع المسافة من و إلى الملعب مرورا بشارع الحسن الثاني، فشارع النصر، مرورا بثانوية مولاي يوسف، هيلتون، فالسويسي، شارع المهدي بن بركة و .....قنطرة المنال، فالعودة للملعب، كنت أعلم أن المهمة صعبة لكن لم تكن بالنسبة لي بالمستحيلة.
الكلومترات الأولى كانت عادية، كنت أبحث فيها عن الإيقاع المناسب، و عن رفيق الطريق، جربت أن أعدو قرب عدد من العدائين، فوجدت البعض أسرع مني، و البعض الآخر أقل، قبل أن أصل قرب المحطة الطرقية كنت قد أكتشفت أحد المشاركين المناسبين، كانت هيأته تشير إلى أنه يصغرني قليلا، لكنه يجري بإيقاع مناسب لي. الجميل في مثل هذه التظاهرات أنك لا تحتاج إلى مقدمات لتختار رفيق الطريق، واقع الحال يفرض عليك ذلك، يكفي أن تجربي بقرب أحدهم بضع دقائق لتخلق الألفة، و يبدأ التعاون، سرنا معا و بإيقاع مناسب و كأننا نعرف بعضنا منذ سنين، لم نكلم بعضنا البعض، لأنه لم نكن بحاجة للكلام، بين الحين و الآخر ، كنت أسترق النظر إلى رفيقي، و أظنه ايضا كان يفعل ذلك، كان شابا في الاربعين، بنية رياضية تعرفها من قامته، نظارات سوداء لا تمكنك من الإحاطة بتفاصيل ملامحه، بدلة رياضية مناسبة لا يمكن مقارنتها بما ألبس، سماعات على الاذنين لا أعرف أهي للموسيقى أم فقط لظبط الوقت كما أفعل شخصيا بسماعاتي، سرنا بنفس الإيقاع العشر كيلومترات الأولى، كل شيء على ما يرام، أكثر من ذلك، من حين لآخر كنت أشجع بعض الشباب ممن بدى عليهم التعب، أنظر إلى الجمهور المتواجد على جنبات الطريق، على قلته كنت أرى أنه يغبطنا على ما نفعله، من حين لآخر نصادف بعض السيارات ، أصحابها يحتجون على قطع الطريق، أغليهم من أصحاب العربات الرباعية الدفع، لا أدري أهي صدفة أم شيء آخر غير ذلك. آه لم أكن أتوقع أن الجري سوف يكون متعة إلى هذا الحد، ها قد أصبحت على مشارف نصف المسافة و الأمور تسير على ما يرام، كل خمس كيلومترات، نجد من يزودنا بالماء في جو من المرح و السرور.
تجاوزت ثانوية مولاي يوسف، و بدأت الطريق ترتفع بعد ذلك، الحالة فرضت علينا بدل بعض الجهد، لكنني و صديقي لازلنا نحتفظ بنفس الإيقاع، قبل الوصول إلى باب زعير، بدأت أحس ببعض الألم في الركبة، نفس الألم الذي أحسست به في التداريب الأولى، رباه نحن لازلنا في الكيلوميتر الثاني عشر:
- هل ستتبخر أحلامي،
-هل أستطيع الصمود حتى النهاية.
قلت مخاطبا نفسي : محي الدين قاوم، ربما بعد هذه المسافة سوف تجد طريقا منبسطة و سيخف الألم.
الأمر لم يكن كذلك، الألم تضاعف، بدأت أخفف من الإيقاع، كانت المرة الأولى التي سيتكلم فيها معي رفيق الطريق، نظر إلي و قال : كوغاج، كوغاج.
كابرت رغم الالم، كنت أريد أن لا أخذل نفسي و أستجيب لندائه. بعد أقل من خمسين متر، فهمت أنه من المستحيل السير بنفس السرعة، كنت في الكيلوميتر الخامس عشر. و دعت رفيقي متمنيا له التوفيق، و أصبحت وحدي أواجه المصير، بدأت الأفكار السوداء تتناسل،:
- أتدري خطورة الوضع؟
- و ما ادراك أن يكون رابط من الروابط قد تمزق؟
- الماراطون يا صديقي يلزمه تحضير خاص؟
- غير أجي و تجري الماراطون؟ أوا سير تكمش؟
- خمسة عشرة كلوميتر باركا عليك؟
- راه عندك 47 عام.
و هلوسات أخرى من هذا المثيل.
كلما تأثرت عزيمتي ، تذكرت الطابور الخامس، آه من لسعاته، إنها أشد من الألم الذي أحس به الآن، و هو أهون على نفسي من السخرية التي سأصبح موضوعا لها إن أنا استسلمت.
حاولت توجيه التفكير نحو أمين إبني، أي فرحة سيحس بها و انا أهديه ميدالية المشاركة، أي رمز سأترك له من خلال هدف حققه أبوه بعد السابعة و الأربعين، كنت عازما على الأستمرار، أجري مرة و أهرول في ثانية، أسرع تارة و أخفف السير في أخرى، لم أكن أعلم كيف سأصل، و ماهي حالتي عند خط النهاية، لكنني كنت مقتنع أنني سوف أكمل و لو سيرا على اليدين و الرجلين.
المسافة بين هيلتون و شارع المهدي بن بركة كانت من أصعب الفترات، أكثر من مرت كنت على وشك ترك السباق، لولا صورة ابني و بعض الاصدقاء، واصلت المسير معتمدا على عزيمتي، و مستمعا إلى جسدي، أجاريه تارة، و أقسو عليه تارة أخرى، و كلما مر الوقت، أقتربت النهاية، و زاد الأمل.
نحن الأن في الكيلوميتر الثامن عشر، أظن أننا على مشارف أحد المستشفى العسكري، لم أعد أستطيع الجري، أقدامي تؤلمني و كأنني أجري حافي القدمين، ساقاي لا أكاد أحس بهما، ركبتاي و كأنما أحدهم يوخزني بالأبر، و لا زالت أمامي بعض الكيلومترات، المنحدرات أصبحت الآن أكثر ألما علي من المرتفعات، في المنحدرات أحس و كأن عظام الساق، ستخرق عظام الفخد، أحاول الإستمرار لكن الجسد لا يجيب، فجأت تجاوزني رجل تجاوز الستين، نظر إلي و قال:
- كابر يا ولدي ، لم يبقي سوي كيلوميترين.
هذا ما كنت أحتاجة، جرعة أمل، أحدهم يدفعني لكي أبحث في أعماق مواردي الداخلية، رجل يذكرني بالأهداف التي من أجلها جئت لهذا السباق، لا أدري كيف، و لا لماذا طوال الوقت كان لساني يقول: كابر يا محي الدين، كابر يا محي الدين،...
كلما أقتربت من الملعب تناسيت الألم، كلما تجاوزت أحدا كنت أردد كابر أخويا ، لم يبق سوى القليل، تجاوزت القنطرة، و ظهر أمامي آخر مرتفع، بدأت أصوات المنظمين تصل إلى مسامعي، لا أدري كيف تجاوزت المرتفع، كل ما أعرفه أنه بعد ذلك أصبحت محمولا بتشجيعات الجمهور، بحلاوة النهايات، بجمال اللحظات، بقيمة التحدي.
تجاوزت خط النهاية، بخطوات جد بطيئة، لكن كانت كافية لتكون بداية عشق كبير مع السباقات على الطريق. الآن لا أدري لماذا، و أنا أقطع خط النهاية، و دون تفكير، لم أعد أرى الطابور الخامس الذي واكبني طيلة الكلومترات الأخيرة، و لم أعد أرى سوى زوجتي و إبني أمين .
لمن يفكر في القيام بالتجربة، أجزم له أو لها أنها تجربة تستحق أن تعاش و لو مرة. مهما وصفت ، فالواقع أحلى من ذلك بكثير. ما تبقى من ذلك اليوم كان متعة لازلت أتذوق حلاوتها إلى اليوم. في خضم المتعة، و في مكالمة مع أخي حسن، سألته:
- لماذا أحسست بنفس الألم رغم أن الحذاء من النوع الجيد؟
- أجاب: كان جيدا يوم اشتريته في 2006.
محي الدين الوكيلي
اvalence 2019
الجزء الثالث
كانت الساعة تشير إلى الثامنة صباحا حين أعطيت الإنطلاقة، كان علينا أن نقطع المسافة من و إلى الملعب مرورا بشارع الحسن الثاني، فشارع النصر، مرورا بثانوية مولاي يوسف، هيلتون، فالسويسي، شارع المهدي بن بركة و .....قنطرة المنال، فالعودة للملعب، كنت أعلم أن المهمة صعبة لكن لم تكن بالنسبة لي بالمستحيلة.
الكلومترات الأولى كانت عادية، كنت أبحث فيها عن الإيقاع المناسب، و عن رفيق الطريق، جربت أن أعدو قرب عدد من العدائين، فوجدت البعض أسرع مني، و البعض الآخر أقل، قبل أن أصل قرب المحطة الطرقية كنت قد أكتشفت أحد المشاركين المناسبين، كانت هيأته تشير إلى أنه يصغرني قليلا، لكنه يجري بإيقاع مناسب لي. الجميل في مثل هذه التظاهرات أنك لا تحتاج إلى مقدمات لتختار رفيق الطريق، واقع الحال يفرض عليك ذلك، يكفي أن تجربي بقرب أحدهم بضع دقائق لتخلق الألفة، و يبدأ التعاون، سرنا معا و بإيقاع مناسب و كأننا نعرف بعضنا منذ سنين، لم نكلم بعضنا البعض، لأنه لم نكن بحاجة للكلام، بين الحين و الآخر ، كنت أسترق النظر إلى رفيقي، و أظنه ايضا كان يفعل ذلك، كان شابا في الاربعين، بنية رياضية تعرفها من قامته، نظارات سوداء لا تمكنك من الإحاطة بتفاصيل ملامحه، بدلة رياضية مناسبة لا يمكن مقارنتها بما ألبس، سماعات على الاذنين لا أعرف أهي للموسيقى أم فقط لظبط الوقت كما أفعل شخصيا بسماعاتي، سرنا بنفس الإيقاع العشر كيلومترات الأولى، كل شيء على ما يرام، أكثر من ذلك، من حين لآخر كنت أشجع بعض الشباب ممن بدى عليهم التعب، أنظر إلى الجمهور المتواجد على جنبات الطريق، على قلته كنت أرى أنه يغبطنا على ما نفعله، من حين لآخر نصادف بعض السيارات ، أصحابها يحتجون على قطع الطريق، أغليهم من أصحاب العربات الرباعية الدفع، لا أدري أهي صدفة أم شيء آخر غير ذلك. آه لم أكن أتوقع أن الجري سوف يكون متعة إلى هذا الحد، ها قد أصبحت على مشارف نصف المسافة و الأمور تسير على ما يرام، كل خمس كيلومترات، نجد من يزودنا بالماء في جو من المرح و السرور.
تجاوزت ثانوية مولاي يوسف، و بدأت الطريق ترتفع بعد ذلك، الحالة فرضت علينا بدل بعض الجهد، لكنني و صديقي لازلنا نحتفظ بنفس الإيقاع، قبل الوصول إلى باب زعير، بدأت أحس ببعض الألم في الركبة، نفس الألم الذي أحسست به في التداريب الأولى، رباه نحن لازلنا في الكيلوميتر الثاني عشر:
- هل ستتبخر أحلامي،
-هل أستطيع الصمود حتى النهاية.
قلت مخاطبا نفسي : محي الدين قاوم، ربما بعد هذه المسافة سوف تجد طريقا منبسطة و سيخف الألم.
الأمر لم يكن كذلك، الألم تضاعف، بدأت أخفف من الإيقاع، كانت المرة الأولى التي سيتكلم فيها معي رفيق الطريق، نظر إلي و قال : كوغاج، كوغاج.
كابرت رغم الالم، كنت أريد أن لا أخذل نفسي و أستجيب لندائه. بعد أقل من خمسين متر، فهمت أنه من المستحيل السير بنفس السرعة، كنت في الكيلوميتر الخامس عشر. و دعت رفيقي متمنيا له التوفيق، و أصبحت وحدي أواجه المصير، بدأت الأفكار السوداء تتناسل،:
- أتدري خطورة الوضع؟
- و ما ادراك أن يكون رابط من الروابط قد تمزق؟
- الماراطون يا صديقي يلزمه تحضير خاص؟
- غير أجي و تجري الماراطون؟ أوا سير تكمش؟
- خمسة عشرة كلوميتر باركا عليك؟
- راه عندك 47 عام.
و هلوسات أخرى من هذا المثيل.
كلما تأثرت عزيمتي ، تذكرت الطابور الخامس، آه من لسعاته، إنها أشد من الألم الذي أحس به الآن، و هو أهون على نفسي من السخرية التي سأصبح موضوعا لها إن أنا استسلمت.
حاولت توجيه التفكير نحو أمين إبني، أي فرحة سيحس بها و انا أهديه ميدالية المشاركة، أي رمز سأترك له من خلال هدف حققه أبوه بعد السابعة و الأربعين، كنت عازما على الأستمرار، أجري مرة و أهرول في ثانية، أسرع تارة و أخفف السير في أخرى، لم أكن أعلم كيف سأصل، و ماهي حالتي عند خط النهاية، لكنني كنت مقتنع أنني سوف أكمل و لو سيرا على اليدين و الرجلين.
المسافة بين هيلتون و شارع المهدي بن بركة كانت من أصعب الفترات، أكثر من مرت كنت على وشك ترك السباق، لولا صورة ابني و بعض الاصدقاء، واصلت المسير معتمدا على عزيمتي، و مستمعا إلى جسدي، أجاريه تارة، و أقسو عليه تارة أخرى، و كلما مر الوقت، أقتربت النهاية، و زاد الأمل.
نحن الأن في الكيلوميتر الثامن عشر، أظن أننا على مشارف أحد المستشفى العسكري، لم أعد أستطيع الجري، أقدامي تؤلمني و كأنني أجري حافي القدمين، ساقاي لا أكاد أحس بهما، ركبتاي و كأنما أحدهم يوخزني بالأبر، و لا زالت أمامي بعض الكيلومترات، المنحدرات أصبحت الآن أكثر ألما علي من المرتفعات، في المنحدرات أحس و كأن عظام الساق، ستخرق عظام الفخد، أحاول الإستمرار لكن الجسد لا يجيب، فجأت تجاوزني رجل تجاوز الستين، نظر إلي و قال:
- كابر يا ولدي ، لم يبقي سوي كيلوميترين.
هذا ما كنت أحتاجة، جرعة أمل، أحدهم يدفعني لكي أبحث في أعماق مواردي الداخلية، رجل يذكرني بالأهداف التي من أجلها جئت لهذا السباق، لا أدري كيف، و لا لماذا طوال الوقت كان لساني يقول: كابر يا محي الدين، كابر يا محي الدين،...
كلما أقتربت من الملعب تناسيت الألم، كلما تجاوزت أحدا كنت أردد كابر أخويا ، لم يبق سوى القليل، تجاوزت القنطرة، و ظهر أمامي آخر مرتفع، بدأت أصوات المنظمين تصل إلى مسامعي، لا أدري كيف تجاوزت المرتفع، كل ما أعرفه أنه بعد ذلك أصبحت محمولا بتشجيعات الجمهور، بحلاوة النهايات، بجمال اللحظات، بقيمة التحدي.
تجاوزت خط النهاية، بخطوات جد بطيئة، لكن كانت كافية لتكون بداية عشق كبير مع السباقات على الطريق. الآن لا أدري لماذا، و أنا أقطع خط النهاية، و دون تفكير، لم أعد أرى الطابور الخامس الذي واكبني طيلة الكلومترات الأخيرة، و لم أعد أرى سوى زوجتي و إبني أمين .
لمن يفكر في القيام بالتجربة، أجزم له أو لها أنها تجربة تستحق أن تعاش و لو مرة. مهما وصفت ، فالواقع أحلى من ذلك بكثير. ما تبقى من ذلك اليوم كان متعة لازلت أتذوق حلاوتها إلى اليوم. في خضم المتعة، و في مكالمة مع أخي حسن، سألته:
- لماذا أحسست بنفس الألم رغم أن الحذاء من النوع الجيد؟
- أجاب: كان جيدا يوم اشتريته في 2006.
محي الدين الوكيلي
اvalence 2019