الأديبة التي كتبت " نوة الكرم" ترحل في ظروف مأساوية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الأديبة التي كتبت " نوة الكرم" ترحل في ظروف مأساوية



    الأديبة التي كتبت " نوة الكرم" ترحل في ظروف مأساوية.
    نجوى شعبان تودع الحياة الثقافية بغياب أخير.

    تحرير: سمير الفيل .

    عرفت نجوى شعبان ، في وقت مبكر من حياتها ، فقد عينت مدرسا بمدرسة الإمام محمد عبده منذ 1971 ، لكن بعد ذلك بعدة سنوات ، أي في العام 1980 رأيتها ، فتاة حادة الملامح، منكوشة الشعر، تتكلم بسرعة ، تتحرك بحيوية متدفقة ، واثقة من نفسها ، تسير بسرعة كأنها تصارع الوقت لإنجاز أعمالها .
    كانت تحضر أصغر أخوتها للمدرسة ، وهما توأم : حسني وبهجت. ألمح في يدها كتابا أو رواية ، فعرفت منها شغفها بالأدب قبل أن تكتب شيئا ، واطلعت على تفوقها في الترجمة عبر مسابقات فازت فيها على مستوى المحافظة . كانت إذن قد تخرجت من مدرسة اللوزي الثانوية للبنات ، والتحقت بكلية الإعلام بالقاهرة 1977 ، وهي تأتي لمدينتها في إجازات قصيرة فتصحب شقيقيها للمدرسة ، وبعد انتهاء اليوم تعود كي تأخذهما ، وتقطع الشارع الرئيسي ، لتدخل بيتهم في البدروم " الدور الارضي ".
    بيت أسرتها في مواجهة المدرسة بالضبط لكنها تخاف عليهما خطر السيارات، أما والدها فكان طويلا عريضا ، له شارب كثيف . أراه أغلب أيام الأسبوع ، في السابعة صباحا ، يخرج من البوابة الحديدية بالبيجامة المقلمة ؛ ليشتري من محل" البربير " الفول والطعمية والخبز . هو موظف بسيط ( مواليد 1931 ) ، يعمل سائق موتسيكل في مديرية العمل ثم بعد تحديث طرق النقل ، سلموه سيارة لنفس المصلحة ، ظل يعمل عليها حتى خروجه للمعاش . زوجته ـ أي أم نجوى ـ هي السيدة إحسان فهمي بصل ، والعائلة تسكن حي الشبطاني . من السيدة إحسان أنجب ثمانية أبناء ، هم : محمد( نجار) ، علي ( مذهباتي ) ، تزوج سيدة من لبنان وعاش هناك حتى الآن ، محسن ( أويمجي) ، نجوى ، حسان ( أويمجي ) ، أمل ( ست بيت) تزوجت من شخص سكندري وتعيش حاليا في فرنسا ، بهجت ( مدرس كهرباء بالمدرسة الفنية ) ، حسني.( نجار) .
    زوجته الثانية التي تزوجها بعد وفاة أم نجوى لم تنجب ، وماتت في حياته، وتفرق الأخوة بعد عملهم وزواجهم وإن كان أغلبهم قد عمل بحرف متصلة بالموبليا .
    مرت سنوات طويلة واختفت نجوى شعبان عن الأنظار ، وكبر شقيقاها، وعرفت أن تلك الفتاة الرقيقة ، الجادة جدا قد دخلت ميدان الكتابة ، قابلتها بالمصادفة في أتيليه القاهرة فأهدتني رواية " الغر" التي فازت بجائزة أندية الفتيات بالشارقة 1998، وكانت قد أصدرت قبلها مجموعة قصصية باسم" جدائل التيه" 1995. بعد سنوات فازت " نوة الكرم " بجائزة الدولة التشجيعية 2004 وهي أشهر أعمالها ، ودارت حولها بحوث جادة وضعتها باقتدار على خريطة السرد العربي .
    لما قرأت الرواية تأكدت أنني أمام كاتبة موهوبة ، تمتلك حسا فنيا عاليا لتضفير السرد بالتاريخ . بعدها انقطعت أخبارها عنا لفترة طويلة .ربما أذكر واقعتين حول علاقتها بمدينتها.
    الواقعة الأولى : في سنة2001 دعيت للمشاركة في مؤتمر أدباء مصر بالأقاليم، وكان يعقد دورته في الفيوم، ركبت نجوى شعبان معنا سيارة الأتوبيس ، وجلست بجوارها أحاورها في مفهوم الكتابة وظروف العمل. كانت مازالت تتمتع بحضور وحيوية مع انكسار نفسي بسيط لا يكاد يلحظ ، لم أدرك كنهه وقتها. كانت متمسكة بجذورها ، لذا أصرت على التقاط صور لها مع وفد دمياط باعتبارها دمياطية وكان الوفد يتكون من : الشاعر مصطفى العايدي ، الشاعر احمد راضي ، القاص فكري داود، القاص عابد المصري ، سمير الفيل . في الصور انضم إلينا صديقينا سيد الوكيل وعبدالسلام فاروق . كان عضو الامانة قد دخل المستشفى فلم يحضر وهو الشاعر محمد العتر. ذلك المؤتمر كان رئيسه الأستاذ الدكتور أحمد مستجير ، وأمينه العام الدكتور فوزي خضر، ورئيس الهيئة وقتها محمد غنيم .
    الواقعة الثانية : أتذكر أنه في سنة 2008 ، أشرف الدكتور عبدالرحمن الوصيفي على عقد مؤتمر دولي حول دمياط في التاريخ ، وذلك بمقر مكتبة مصر العامة بدمياط ، حضرت نجوى شعبان للمشاركة كروائية متحققة ، ومن سوريا جاءت الروائية شهلا العجيلي التي كتبت دراسة حول دمياط كمدينة كوزمبالتية ، ناقشت فيها رواية" نوة الكرم" لنجوى شعبان ، ومجموعة " صندل أحمر " لسمير الفيل ، وجاء شقيقها بهجت ليرحب بها في مدينة رأس البر ومعه صديقه وائل .
    في ذلك اللقاء تحدثت معي باستفاضة عن تجربة الحياة بعيدا عن مدينتها الصغيرة ، قالت: " كنت فرحة بأن أتلقى تعليمي في العاصمة. القاهرة فتحت امامي طاقة نور لكنها في المقابل أجهدتني تماما. أشعر انني ترس في آلة . لا وقت للراحة وتأمل الأشياء. الرواية تحتاج إلى تجهيز وترتيب وتجييش قواك. لم أتمكن بعد من عبور حاجز البنية السردية في " نوة الكرم". ربما أنجح في تجارب قادمة " .
    اختفت نجوى شعبان عن الساحة الأدبية في العشر سنوات الأخيرة حتى فاجأني خبر موتها ، الذي نشر على شبكة افيس بوك بلا أي تفاصيل .
    تأثرت جدا بعد قراءة الخبر ، نزلت على الفور لمعرفة موعد الجنازة . توجهت إلى بيتها المقابل لمدرستي القديمة . وجدت صمتا يخيم على المكان، والحيران لا يعرفون من هي نجوى شعبان. أما بائع السجائر في مدخل ثان مطل على الشارع الرئيسي ، فقد عرفني مدرسا لابنه . سألته إن كان قد سمع عن موت نجوى قال: "إنها مريضة بالقاهرة. والدها عم فؤاد أخبرني بهذا ".
    عرفت أن أسرتها قد تركت الشقة بعد موت الأب العام الماضي. ذهبت للمدخل القديم للبيت بالشارع الجانبي ، وجدته قد تحول إلى دكانين فاخرين . كان ابن أصحاب البيت ـ اسمه خالد إدريس ـ طالبا عندي فاستقبلني بشكل محترم وطلب شقيقها بهجت شعبان من تليفونه المحمول .
    علمت منه أنها توفيت يوم الجمعة 30 أغسطس ، ودفنت بالقاهرة ، ولم يتصل بالأسرة أحد لإخبارهم بالموضوع إلا في مساء نفس اليوم. سافر بهجت للقاهرة فجر يوم السبت لتلقي العزاء ، مع نور ، وهو ابنها الوحيد من الزوج الأول مصطفى عبدالوهاب .. في إحدى دور المناسبات بمدينة نصر.
    الجمعة التالي حددنا موعدا للقاء على مقهى العيسوي. جاء بهجت على ماكينة قديمة" موتسيكل" ومعه ابنه خالد. ومن المصادفات الغريبة أنني كنت أقاسم المنضدة مع شخص لا أعرفه ، عرفت بعد ذلك أن اسمه عبده عزب ، وهو صديق العائلة ( يعمل مذهباتي ، وقضى فترة من حياته في سوريا ) . ما إن رأى راكب الموتسيكل يترجل حتى سأله : إزي محمد .. وإزي نجوى؟. رد باختصار: محمد كويس ونجوى ماتت.
    يحدثني بهجت وهو أقرب الأشقاء لنفسها أن شقيقته التي كان يستغرب من أن الكتاب لا يفارق يديها ، صارت تشعر بضغوط قوية ، واقعة عليها ، خاصة بعد فوزها بالجائزة ، وهذا تسبب في قلة نومها ، مما اضطرها للذهاب للأطباء النفسيين الذين وصغوا لها مهدئات بشكل مكثف ، وفي السنوات الأخيرة بدأت تفقد الذاكرة ، وتنسى .
    خرجت من البيت مرة لقضاء مشوار ، و لم تتذكر طريق العودة أبدا. بأعجوبة نجح سائق تاكسي في إعادتها لبيتها في الحي الثامن بمدينة نصر ، فاتخذ الابن وزوجها قرارا بإيداعها إحدى المصحات أو دور الرعاية لأن كلا منهما له عمل ولا يأمنان عليها أن تظل بمفردها . زارها بهجت مرتين في المستشفى بمنطقة المقطم، وكانت تتعرف عليه بصعوبة .
    نجوى شعبان الطالبة المتفوقة في الثانوي العام ، والتي اختارت الإعلام بدلا من الطب، تزوجت وانجبت ولدا واحدا هو نور .
    بعد وفاة زوجها الأول ، تزوجت زميلها بوكالة انباء الشرق الأوسط وهو الأستاذ ناجي الصهرجتي. يؤكد شقيقها أنه استضافها ليومين في بيته بدمياط فكانت تتشكك في أن الكمبيوتر يكتب كلاما بنفسه ، يفتح ويغلق ، ويمحو الكلام ، وان في الموضوع مؤامرة محكمة ضدها . كانت طول فترة إقامتها مع أسرته تشعر بالاختناق ، وتنتابها رغبة في الخروج من البيت في أي وقت من اليوم لتسير في الشوارع بلا هدف . كانت زوجته ترافقها في الخروج خوفا عليها.
    يقول أنها كانت ذكية ، عاقلة، مقبلة على الحياة. لا يعرف طبيعة الأسباب التي جعلتها تتحول فجأة ، فكأنه يرى شخصية مختلفة . صارت تعيش حالة الخوف والإحساس بالمطاردة و الارتباك .
    ماتت نجوى شعبان ، ودفنت بالقاهرة ، وهي التي أحبت مدينتها دمياط ، وكتبت عن تاريخها في رواياتها.
    رحم الله الكاتبة الموهوبة ، ابنة البحر والنهر والبحيرة. وعوضنا عنها خيرا.. .
يعمل...
X