سليم (جواد ـ)
(1921ـ1961)
عاش جواد محمد سليم منذ طفولته المبكرة محاطاً بعالم الفن والصورة الجميلة، فقد كان والده الحاج محمد سليم رساماً تعلم أصول الرسم في تركيا عندما كانت الامبراطورية العثمانية تسيطر على العراق وعلى أجزاء كثيرة من الوطن العربي. لذلك نشأ هذا الابن الذكي مشرباً بوعي الصورة وتأثيرات اللون، إذ تشير التخطيطات الأولية المبكرة لـه عن وعي استثنائي مختلف عن بقية أقرانه.
ومع قيام الحكم الوطني في العراق في مطلع العشرينات، وبدء حقبة تعليمية وثقافية جديدة، راحت أولى العلامات الإبداعية تطل من خلال مواهب عراقية شابة سعت إلى نهل المعرفة من مصادرها الغربية. وتسخيرها، بعد نضجها، لصالح وطنها ومستقبله الأكاديمي والمعرفي.
كان جواد سليم مع بداية الأربعينات واحداً من ثلة من الموهوبين الذين يحملون دفقاً من الأسئلة الباحثة عن أجوبة مقنعة. لذلك كان شخصية تنطوي على حضور متحرك وفاعل. وأفاد فائدة كبيرة من أقرانه الذين ارتبط معهم بعلاقة يومية متينة أمثال فائق حسن وعطا صبري. لكنه كان أكثر استفادة من أولئك الفنانين البولونيين الذين وصلوا إلى بغداد هاربين من بلادهم التي دمرها الغزو النازي الهتلري، ومن نصائحهم ولاسيما تلك النصيحة التي مفادها: أن يدرسوا خصائص مدينتهم ويخرجوا إلى الطبيعة ليكتسبوا منها علاقة الألوان بالنور، ويركزوا من ثم على براعة التخطيط المفعم بالتفاصيل.
التقط جواد سليم هذه النصائح وسافر عام 1946 إلى انكلترا لدراسة النحت، حيث أمضى المدة ما بين شتاء 1946 وربيع 1949 باحثاً في تحولات الكتلة، وفي علاقتها المتحركة مع فضائها، إذ إن كل عمل نحتي هو علاقة ذات خصوصية تقوم بين الكتلة والفراغ.
لكن جواد سليم لم يكتف بالدراسة وحدها، بل حمل مفاهيم جديدة وتعريفات جريئة للفن، وقد أوضح فلسفته الفنية، ونظرته الإبداعية، عبر البيان التأسيسي لجماعة بغداد للفن الحديث التي أسسها عام 1951 في مقابل جماعة الرواد التي أسسها زميله الفنان فائق حسن عام 1950.
ومع ذلك فإن الاتجاه المميز لجواد سليم لم يبرز إلى حيز الوجود العلني والمؤثر إلا من المعارض التي بدأت تقيمها جماعة بغداد للفن الحديث، إذ لاحظ المتابعون أن ثمة تنوعاً في الأساليب وفي تناول حياة الناس، ولكنه راح ينطلق أيضاً من تراث الرافدين العريق، رابطاً بين هذا الموروث الغزير واتجاهات الفن في العالم الغربي.
استلهم فن جواد إبان هذه المرحلة، أساليب الفن العراقي، سواء عبر منمنمات يحيى الواسطي (عاش في مدينة واسط العراقية ما بين 1360 و1410 هجرية) أو من الفنون الآشورية والسومرية ذات التفاصيل المثيرة، لكنه أيضاً لم يهمل اتجاهات الفن العالمي الحديث. لذلك يعد فن جواد سليم فناً تعبيرياً يستلهم الروح الأساسية للفنون العراقية في العصور والأدوار كافة، مضافاً إليها روح المعاصرة الموجودة في الفنون العالمية الحديثة. وهذا الاتجاه يكشف عن مستوى ثقافي رفيع وصل إليه الفنان جواد سليم، سواء على صعيد النحت أو على صعيد الرسم. وقد عده بعض الذين أرخوا لفنه وحياته أمثال الناقد الكبير جبرا إبراهيم جبرا وثبة في الاتجاه الصحيح للفن العراقي المعاصر. وتعد المدة ما بين 1940-1961 زمن وفاته، إبان عمله في إنجاز نصب الحرية الخالد في ساحة التحرير وسط بغداد، مدة تطور مهم في مسيرة الفن العراقي الحديث.
إن تقويم أعمال جواد سليم بعد مضي أكثر من أربعين عاماً على رحيله يؤكد أنه فنان دخل عالم الفن من معايشته اليومية للإبداع التصويري في منزله، فوالده رسام معروف وكذلك شقيقته نزيهة سليم، وشقيقه نزار سليم.
وجواد سليم مثقف شامل، إذ كان يعزف على الكيتار [ر. القيثارة]، ويطالع النصوص الأدبية والتاريخية وكتب النقد. وهو مستمع جيد لمختلف الآراء ومتابع لضروب الحوار كافة. وكان على صلة بتراثه الفني والثقافي، بل عايشه واطلع عليه على نحو تفصيلي، وفسره تفسيراً حضارياً. كما كان من الدارسين الجيدين للفن المعاصر، ومن المطلعين على مدارسه وتطوره وأعلامه. وكان يؤمن بضرورة تجديد الفن العراقي المعاصر، والنهوض به على أسس متحركة، ومفاهيم متطورة، شريطة أن تتواصل مع الفن العربي الموجود في الأقطار الأخرى. وقد ركز في أعماله الأساسية على القيم التخطيطية للتشكيل، فأبرز قوة التفاصيل وأثرها في الشكل العام.
رحل جواد سليم مبكراً، إثر نوبة قلبية وهو يعمل في إنجاز نصب الحرية الكبير الذي أنجزه من بعده أصدقاؤه الأوفياء وفي مقدمتهم النحات العراقي محمد غني حكمت.
عمران قيسي
(1921ـ1961)
عاش جواد محمد سليم منذ طفولته المبكرة محاطاً بعالم الفن والصورة الجميلة، فقد كان والده الحاج محمد سليم رساماً تعلم أصول الرسم في تركيا عندما كانت الامبراطورية العثمانية تسيطر على العراق وعلى أجزاء كثيرة من الوطن العربي. لذلك نشأ هذا الابن الذكي مشرباً بوعي الصورة وتأثيرات اللون، إذ تشير التخطيطات الأولية المبكرة لـه عن وعي استثنائي مختلف عن بقية أقرانه.
ومع قيام الحكم الوطني في العراق في مطلع العشرينات، وبدء حقبة تعليمية وثقافية جديدة، راحت أولى العلامات الإبداعية تطل من خلال مواهب عراقية شابة سعت إلى نهل المعرفة من مصادرها الغربية. وتسخيرها، بعد نضجها، لصالح وطنها ومستقبله الأكاديمي والمعرفي.
كان جواد سليم مع بداية الأربعينات واحداً من ثلة من الموهوبين الذين يحملون دفقاً من الأسئلة الباحثة عن أجوبة مقنعة. لذلك كان شخصية تنطوي على حضور متحرك وفاعل. وأفاد فائدة كبيرة من أقرانه الذين ارتبط معهم بعلاقة يومية متينة أمثال فائق حسن وعطا صبري. لكنه كان أكثر استفادة من أولئك الفنانين البولونيين الذين وصلوا إلى بغداد هاربين من بلادهم التي دمرها الغزو النازي الهتلري، ومن نصائحهم ولاسيما تلك النصيحة التي مفادها: أن يدرسوا خصائص مدينتهم ويخرجوا إلى الطبيعة ليكتسبوا منها علاقة الألوان بالنور، ويركزوا من ثم على براعة التخطيط المفعم بالتفاصيل.
التقط جواد سليم هذه النصائح وسافر عام 1946 إلى انكلترا لدراسة النحت، حيث أمضى المدة ما بين شتاء 1946 وربيع 1949 باحثاً في تحولات الكتلة، وفي علاقتها المتحركة مع فضائها، إذ إن كل عمل نحتي هو علاقة ذات خصوصية تقوم بين الكتلة والفراغ.
لكن جواد سليم لم يكتف بالدراسة وحدها، بل حمل مفاهيم جديدة وتعريفات جريئة للفن، وقد أوضح فلسفته الفنية، ونظرته الإبداعية، عبر البيان التأسيسي لجماعة بغداد للفن الحديث التي أسسها عام 1951 في مقابل جماعة الرواد التي أسسها زميله الفنان فائق حسن عام 1950.
ومع ذلك فإن الاتجاه المميز لجواد سليم لم يبرز إلى حيز الوجود العلني والمؤثر إلا من المعارض التي بدأت تقيمها جماعة بغداد للفن الحديث، إذ لاحظ المتابعون أن ثمة تنوعاً في الأساليب وفي تناول حياة الناس، ولكنه راح ينطلق أيضاً من تراث الرافدين العريق، رابطاً بين هذا الموروث الغزير واتجاهات الفن في العالم الغربي.
بغداديات |
إن تقويم أعمال جواد سليم بعد مضي أكثر من أربعين عاماً على رحيله يؤكد أنه فنان دخل عالم الفن من معايشته اليومية للإبداع التصويري في منزله، فوالده رسام معروف وكذلك شقيقته نزيهة سليم، وشقيقه نزار سليم.
وجواد سليم مثقف شامل، إذ كان يعزف على الكيتار [ر. القيثارة]، ويطالع النصوص الأدبية والتاريخية وكتب النقد. وهو مستمع جيد لمختلف الآراء ومتابع لضروب الحوار كافة. وكان على صلة بتراثه الفني والثقافي، بل عايشه واطلع عليه على نحو تفصيلي، وفسره تفسيراً حضارياً. كما كان من الدارسين الجيدين للفن المعاصر، ومن المطلعين على مدارسه وتطوره وأعلامه. وكان يؤمن بضرورة تجديد الفن العراقي المعاصر، والنهوض به على أسس متحركة، ومفاهيم متطورة، شريطة أن تتواصل مع الفن العربي الموجود في الأقطار الأخرى. وقد ركز في أعماله الأساسية على القيم التخطيطية للتشكيل، فأبرز قوة التفاصيل وأثرها في الشكل العام.
رحل جواد سليم مبكراً، إثر نوبة قلبية وهو يعمل في إنجاز نصب الحرية الكبير الذي أنجزه من بعده أصدقاؤه الأوفياء وفي مقدمتهم النحات العراقي محمد غني حكمت.
عمران قيسي