قصة قصيرة
الباخرة
استيقظ كعادته قبل الجميع. تأبط حذاءه القديم وسرواله المتآكل من كثرة الاستعمال وفتح باب البيت ببطء شديد وهو يتمنى في قرارة نفسه ألا يخرج أصواته المزعجة بسبب الصدأ الذي استوطنه منذ مدة. اتكأ على الحائط، وترك رجليه الهزيلين يبحثان عن طريقهما بين فتحتي سرواله الواسع والعجوز. ولبس حذاءه الذي صار يئن من كثرة المشي وأنطلق كالريح، لا يلوي على شيء سوى أن يصل في الموعد المحدد الذي اعتاد أن يكون فيه كل يوم. جالسا على تلك الربوة، وحيدا، يراقب زرقة المياه ويستمتع بمرور الباخرة الفاخرة التي تتلألأ بأضوائها كأنها نجوم تسبح في سماء صافية في يوم من أيام الصيف. يجلس بهدوء، وينتظر. ملامحه تحكي في لحظة، الفرح والحزن والمتعة معا. كمن خبر الدنيا وتكالبت عليه المآسي والأحزان. ينتظر ويخلو بنفسه في عالم الباخرة البعيدة، ويرى نفسه يتجوّل بكل خفة كأنه من أهلها. الكل يحترمه ويسلم عليه ويتمنى له مقاما طيبا. وهو يتحرك بخفة متناهية كفراشة تزهو بألوانها أيام فصل الربيع. ترتسم الابتسامات على ملامح وجه الطفولي الذي هاجمته تجاعيد الزمن قبل الأوان. تظهر أسنانه براقة مثل أضواء الباخرة. يتمايل برأسه يمنة ويسرة كمن يبحث عن توازنه. تراه تظن أنه قد فقد عقله. وأوتي به من بعيد، وترك عنوة في هذه القرية الصغيرة حتى لا يعرف طريق العودة. يستيقظ على صوت الباخرة، يرقص جسده من الفرح. تطل الباخرة بمقدمتها الشامخة، يصيح كأنه اكتشف كنزا لا يعرفه سواه. تتقدم الباخرة ببطء، كأنها تعلم بوجوده وتشرئب بعنقها الذي يعبر عن ضخامتها، وهو يصيح بأعلى صوته ويشير إليها بيديه ويقول لها أنا هنا. لقد كنت بين جدرانك بعد قليل. تتحرك الباخرة تخترق زرقة المياه بتأنّ، كأنها ألفته وتعودت عليه. ولدت علاقة حب بينهما. يطير خلفها محاولا أن يلمسها ويمسح بيديه الصغيرتين النحيلتين آثار سفرها الطويل. يجري بكل ما يحتويه جسده الطري من قوة ورغبة جامحة، لا يبالي بأنين قدميه، حتى تبتعد ويبتلعها الفضاء الشاسع وتختفي كشبح اندفع من بقاع البحر واختفى. يعود “محمد” أدراجه وقد زالت متعته القصيرة، لا يبتسم ولا يكلم أحدا. ينزوي عند أحد أركان البيت ويصمت ويعود إلى حلمه. محمد، كأقرانه من الصبيان، يمضي جلّ وقته بالخارج. زمن المدرسة ينتهي باكرا. فيكون عيدا بالنسبة إليه. يتواعد مع أصدقائه على اللعب قرب البحر. وكثيرا ما كان جده يحذره من صمت البحر الذي يتحول في لحظة إلى عدو غاشم. كان محمد، يترك أصدقاءه ويقف صامتا في حالة خشوع كأنه يؤدي صلاة وهو يرى الباخرة تخترق الماء بهدوء ورقي.في ذلك اليوم، انتابه شعور بالقلق والتردد. أخذ أذرع البيت ذهابا وإيابا، كمن يحمل مسؤولية هامة ويبحث لها عن حل. عندما حل أديم الليل، وانطفأت أضواء كل البيوت المجاورة لبيته، وازدحمت السماء بنجومها البراقة، واكتسى المكان صمت رهيب لا يخلو إلا من مواء القطط ونباح الكلاب. ارتمى بجسده الواهن بين أحضان جده، اقترب منه بكل هدوء ووضع رأسه على ركبتيه وسأله:هل سبق لك أن ركبت الباخرة يا جدي؟
ظهرت ابتسامة خفيفة واختفت. علت ملامح الجد علامات الاستغراب، وحاول أن يمنع ارتباكه من السيطرة عليه وقال له بصوت رزين:
منذ زمان بعيد، كنت أجلس على ربوة غير بعيدة من بيتنا، وأنتظر باخرة تأتي من العدم. لا أعرف أولها من آخرها. تظل تقترب حتى كان يخيل إليّ أنها ستسحقني. وكنت أهرب.
اعتدل محمد في جلسته وقال له بلهفة من يكتشف سرا عظيما:
انها الباخرة يا جدي. إنني أراها كل يوم. إنها لا تخيفني بل أحلم أن أتجول بداخلها. أكيد ستكون كما تخيلت.
وأخذ يحكي له عن فخامتها وألوانها الزاهية، وغرفها الكثيرة التي زارته في يوم وهو نائم على الربوة ينتظر قدومها بكل شغف.
ظل التعجب يستولي على ملامح محمد ثم استطرد قائلا:
هل كنت تحدثها؟
مسح الجد بيده على رأسه محمد وأطلق العنان لآهات كأنها كانت مسجونة منذ زمن وتنتظر من يفك حبسها. وهمس له:
عندما كنت أهرب، كنت أظل مختبئا بعيدا عنها. لكن في نفس الآن، كنت أراها جميلة جدا وأنيقة جدا وكم حلمت أنني مسافر بين أحضانها.
انتفض محمد من مكانه كعصفور جريح، وانشرحت أسارير وجهه وتربعت البسمة على عرش محياه ثم التفت إلى جده وبعينيه لهفة غير مفهومة وطلب منه أن يأتي معه في تلك اللحظة المتأخرة من الليل إلى مكانه الخاص به، الذي ينتظر فيه كل يوم الباخرة. استوطنت الجد فرحة تنتمي إلى عالم طفولته، وجلسا تحت حلكة الظلام، والجد تائه بين اليوم والأمس. كأن الزمن يعيد نفسه، ويرى نفسه على تلك الربوة وهو يطيل النظر إلى الأفق البعيد المسكون بالأمواج العاتية والسحب التي تكاد تلامس تلك الباخرة، التي تظهر تتمختر في مشيتها وتشق البحر شقا كأنها تنادي عليه وتطلب منه أن يأتي إليها. يكره أن يسترجع تلك الأيام التي كان يهرب فيها ظانا بعقله البسيط أنها عملاق خرج للتو من أعماق البحر وسيلتهمه كما كانت تحكي له أمه. خلال تلك الأيام، رحل الكثير من أصدقائه كلما زارتهم تلك الباخرة. وكان خوفه وتردده كسلاح مغروس في قلبه يمنعانه من الرحيل. طفت على سطح خده دمعة، طردها بيده بسرعة شديدة حتى لا تلطخ بهاء اللحظة. بالمكان صمت ثقيل على النفس. رفع محمد عينيه الحالمتين إلى السماء وقال لجده الذي بدا هادئا ومستمتعا كأنه يعيد طفولته الهاربة التي نمت في يوم من الأيام على تلك الربوة:
هل ستسمعني النجوم يا جدي؟
لم يكن يعلم الجد أن محمد متشبث بحكايته عن النجوم التي كان يحكيها له ولإخوته قبل النوم، كمن يتشبث بطوق النجاة خوفا من الغرق. قال له وهو يتمنى بكل صدق أن يتحقق حلمه:
بما أنها لا تزال مضيئة، ستسمعك. وماذا ستقول للنجوم؟
ضحك محمد وقبل جده، وقال له:
إنه سر. ربما ستعرفه يوم أركب الباخرة.
مضى الربع الأخير من الليل، وهما جالسان كأنهما ينتظران أحد الغائبين بعد طول غياب. طلعت الشمس، وكست المكان نورا ودفئا، دبت الحياة من جديد، قفز محمد من مكانه كمن اكتوى بنار حامية وأخذ يلوّح بكلتا يديه. قال لجده الذي مازال يحاول أن يفهم:
إنها هناك، آتية. أنظر يا جدي. كم هي جميلة.
لم تتحرك الباخرة من مكانها وكانت راسية كجبل عملاق يمتلك مفاتيح القرية بين يديه. تقدم محمد قليلا صوب المياه التي تتراقص تحت قدميه، وهو يبتسم وينادي عليها. التفت يطلب من جده أن يلحق به، اختفى الجد واختفت الباخرة من الأفق البعيد. وبدت على وجهه أسئلة محيرة. وقف مبلل الثياب، محافظا على ابتسامته الأولى البراقة والمشعة، يلوّح بكلتا يديه إلى هناك، ينتظر أن تقترب وتطل عليه بهامتها العملاقة، ويدخلها منتصرا كما جاء في الحلم. ويتجول بين غرفها الباهية والكل يرحب به كما جاء في الحلم.
بقلم أمينة شرادي من المغرب.
الباخرة
استيقظ كعادته قبل الجميع. تأبط حذاءه القديم وسرواله المتآكل من كثرة الاستعمال وفتح باب البيت ببطء شديد وهو يتمنى في قرارة نفسه ألا يخرج أصواته المزعجة بسبب الصدأ الذي استوطنه منذ مدة. اتكأ على الحائط، وترك رجليه الهزيلين يبحثان عن طريقهما بين فتحتي سرواله الواسع والعجوز. ولبس حذاءه الذي صار يئن من كثرة المشي وأنطلق كالريح، لا يلوي على شيء سوى أن يصل في الموعد المحدد الذي اعتاد أن يكون فيه كل يوم. جالسا على تلك الربوة، وحيدا، يراقب زرقة المياه ويستمتع بمرور الباخرة الفاخرة التي تتلألأ بأضوائها كأنها نجوم تسبح في سماء صافية في يوم من أيام الصيف. يجلس بهدوء، وينتظر. ملامحه تحكي في لحظة، الفرح والحزن والمتعة معا. كمن خبر الدنيا وتكالبت عليه المآسي والأحزان. ينتظر ويخلو بنفسه في عالم الباخرة البعيدة، ويرى نفسه يتجوّل بكل خفة كأنه من أهلها. الكل يحترمه ويسلم عليه ويتمنى له مقاما طيبا. وهو يتحرك بخفة متناهية كفراشة تزهو بألوانها أيام فصل الربيع. ترتسم الابتسامات على ملامح وجه الطفولي الذي هاجمته تجاعيد الزمن قبل الأوان. تظهر أسنانه براقة مثل أضواء الباخرة. يتمايل برأسه يمنة ويسرة كمن يبحث عن توازنه. تراه تظن أنه قد فقد عقله. وأوتي به من بعيد، وترك عنوة في هذه القرية الصغيرة حتى لا يعرف طريق العودة. يستيقظ على صوت الباخرة، يرقص جسده من الفرح. تطل الباخرة بمقدمتها الشامخة، يصيح كأنه اكتشف كنزا لا يعرفه سواه. تتقدم الباخرة ببطء، كأنها تعلم بوجوده وتشرئب بعنقها الذي يعبر عن ضخامتها، وهو يصيح بأعلى صوته ويشير إليها بيديه ويقول لها أنا هنا. لقد كنت بين جدرانك بعد قليل. تتحرك الباخرة تخترق زرقة المياه بتأنّ، كأنها ألفته وتعودت عليه. ولدت علاقة حب بينهما. يطير خلفها محاولا أن يلمسها ويمسح بيديه الصغيرتين النحيلتين آثار سفرها الطويل. يجري بكل ما يحتويه جسده الطري من قوة ورغبة جامحة، لا يبالي بأنين قدميه، حتى تبتعد ويبتلعها الفضاء الشاسع وتختفي كشبح اندفع من بقاع البحر واختفى. يعود “محمد” أدراجه وقد زالت متعته القصيرة، لا يبتسم ولا يكلم أحدا. ينزوي عند أحد أركان البيت ويصمت ويعود إلى حلمه. محمد، كأقرانه من الصبيان، يمضي جلّ وقته بالخارج. زمن المدرسة ينتهي باكرا. فيكون عيدا بالنسبة إليه. يتواعد مع أصدقائه على اللعب قرب البحر. وكثيرا ما كان جده يحذره من صمت البحر الذي يتحول في لحظة إلى عدو غاشم. كان محمد، يترك أصدقاءه ويقف صامتا في حالة خشوع كأنه يؤدي صلاة وهو يرى الباخرة تخترق الماء بهدوء ورقي.في ذلك اليوم، انتابه شعور بالقلق والتردد. أخذ أذرع البيت ذهابا وإيابا، كمن يحمل مسؤولية هامة ويبحث لها عن حل. عندما حل أديم الليل، وانطفأت أضواء كل البيوت المجاورة لبيته، وازدحمت السماء بنجومها البراقة، واكتسى المكان صمت رهيب لا يخلو إلا من مواء القطط ونباح الكلاب. ارتمى بجسده الواهن بين أحضان جده، اقترب منه بكل هدوء ووضع رأسه على ركبتيه وسأله:هل سبق لك أن ركبت الباخرة يا جدي؟
ظهرت ابتسامة خفيفة واختفت. علت ملامح الجد علامات الاستغراب، وحاول أن يمنع ارتباكه من السيطرة عليه وقال له بصوت رزين:
منذ زمان بعيد، كنت أجلس على ربوة غير بعيدة من بيتنا، وأنتظر باخرة تأتي من العدم. لا أعرف أولها من آخرها. تظل تقترب حتى كان يخيل إليّ أنها ستسحقني. وكنت أهرب.
اعتدل محمد في جلسته وقال له بلهفة من يكتشف سرا عظيما:
انها الباخرة يا جدي. إنني أراها كل يوم. إنها لا تخيفني بل أحلم أن أتجول بداخلها. أكيد ستكون كما تخيلت.
وأخذ يحكي له عن فخامتها وألوانها الزاهية، وغرفها الكثيرة التي زارته في يوم وهو نائم على الربوة ينتظر قدومها بكل شغف.
ظل التعجب يستولي على ملامح محمد ثم استطرد قائلا:
هل كنت تحدثها؟
مسح الجد بيده على رأسه محمد وأطلق العنان لآهات كأنها كانت مسجونة منذ زمن وتنتظر من يفك حبسها. وهمس له:
عندما كنت أهرب، كنت أظل مختبئا بعيدا عنها. لكن في نفس الآن، كنت أراها جميلة جدا وأنيقة جدا وكم حلمت أنني مسافر بين أحضانها.
انتفض محمد من مكانه كعصفور جريح، وانشرحت أسارير وجهه وتربعت البسمة على عرش محياه ثم التفت إلى جده وبعينيه لهفة غير مفهومة وطلب منه أن يأتي معه في تلك اللحظة المتأخرة من الليل إلى مكانه الخاص به، الذي ينتظر فيه كل يوم الباخرة. استوطنت الجد فرحة تنتمي إلى عالم طفولته، وجلسا تحت حلكة الظلام، والجد تائه بين اليوم والأمس. كأن الزمن يعيد نفسه، ويرى نفسه على تلك الربوة وهو يطيل النظر إلى الأفق البعيد المسكون بالأمواج العاتية والسحب التي تكاد تلامس تلك الباخرة، التي تظهر تتمختر في مشيتها وتشق البحر شقا كأنها تنادي عليه وتطلب منه أن يأتي إليها. يكره أن يسترجع تلك الأيام التي كان يهرب فيها ظانا بعقله البسيط أنها عملاق خرج للتو من أعماق البحر وسيلتهمه كما كانت تحكي له أمه. خلال تلك الأيام، رحل الكثير من أصدقائه كلما زارتهم تلك الباخرة. وكان خوفه وتردده كسلاح مغروس في قلبه يمنعانه من الرحيل. طفت على سطح خده دمعة، طردها بيده بسرعة شديدة حتى لا تلطخ بهاء اللحظة. بالمكان صمت ثقيل على النفس. رفع محمد عينيه الحالمتين إلى السماء وقال لجده الذي بدا هادئا ومستمتعا كأنه يعيد طفولته الهاربة التي نمت في يوم من الأيام على تلك الربوة:
هل ستسمعني النجوم يا جدي؟
لم يكن يعلم الجد أن محمد متشبث بحكايته عن النجوم التي كان يحكيها له ولإخوته قبل النوم، كمن يتشبث بطوق النجاة خوفا من الغرق. قال له وهو يتمنى بكل صدق أن يتحقق حلمه:
بما أنها لا تزال مضيئة، ستسمعك. وماذا ستقول للنجوم؟
ضحك محمد وقبل جده، وقال له:
إنه سر. ربما ستعرفه يوم أركب الباخرة.
مضى الربع الأخير من الليل، وهما جالسان كأنهما ينتظران أحد الغائبين بعد طول غياب. طلعت الشمس، وكست المكان نورا ودفئا، دبت الحياة من جديد، قفز محمد من مكانه كمن اكتوى بنار حامية وأخذ يلوّح بكلتا يديه. قال لجده الذي مازال يحاول أن يفهم:
إنها هناك، آتية. أنظر يا جدي. كم هي جميلة.
لم تتحرك الباخرة من مكانها وكانت راسية كجبل عملاق يمتلك مفاتيح القرية بين يديه. تقدم محمد قليلا صوب المياه التي تتراقص تحت قدميه، وهو يبتسم وينادي عليها. التفت يطلب من جده أن يلحق به، اختفى الجد واختفت الباخرة من الأفق البعيد. وبدت على وجهه أسئلة محيرة. وقف مبلل الثياب، محافظا على ابتسامته الأولى البراقة والمشعة، يلوّح بكلتا يديه إلى هناك، ينتظر أن تقترب وتطل عليه بهامتها العملاقة، ويدخلها منتصرا كما جاء في الحلم. ويتجول بين غرفها الباهية والكل يرحب به كما جاء في الحلم.
بقلم أمينة شرادي من المغرب.