الأقزام

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الأقزام

    -الأقزام..
    كان أبي رجلا متسلطا ، خشن الطباع، نخشاه نحن أبناؤه كما تخشى النعاج الغنم. لم تطأ قدماه قط المدرسة. التحق بالعمل العسكري. وهناك علموه فك طلاسم الحروف الأبجدية. وبدأ يجلب معه ألى البيت روايات البطولات الخارقة كرواية عنترة بن شداد، و سيف بن دي يزن . قراءاته هاته جعلته، يعتبر نفسه ونحن صغار، السلطة المعرفية الوحيدة في البيت.
    حين التحقنا بالمدرسة، وذهبنا شوطا بعيدا في الدراسة، بدانا نجادله بين الفينة والأخرى في ما يؤمن به من حقائق، الامر الذي اعتبره تهديدا لسلطته التي كان يعتبرها مطلقة لا يأتيها الباطل لا من أمامها ولا من خلفها . كان يعتبر أي رأي يصدر عنا مخالفا لرأيه مجرد هلوسات أطفال، وكان يطلق عليه لفظ "الهديان" ويغلق قوس النقاش.
    وحين تأكد له بعد التحاقي بالجامعة، والتحاق أخي وأختي بسلك التعليم، أنه لم يعد قادرا على مجاراتنا في النقاش، الذي أصبحنا قادرين عليه، بعد ان تخلصنا من شرنقة الخوف منه. أصبح سريع الانفعال ، ويتهمنا بأن التعليم ملأ أدمغتنا بمجموعة من الأوهام . ولنجنب أنفسنا ونجنبه صداع الراس كما يقال، قررنا ان نتجنب النقاش معه، خاصة وأن سنه نقدم .الضغط والسكري، يلازمانه ، ويتربصان به كي ينالا منه في أول فرصة.
    أخر مرة تورطت معه في نقاش سياسي، وضع حدا لهذا النقاش قائلا:
    -هل تعتبر نفسك برلمانيا أيها القزم.
    لم أفهم مسألتين . أولا لماذا اعتبرني قزما، وهل حقا كان يراني كذلك. وثانيا هل كان علي لكي أصير رجلا بالطول والعرض، أن أصبح برلمانيا. وإذا كانت هذه حقا قناعته، فهل كان يعتبر نفسه أيضا قزما، وهل كل من ليس برلمانيا في نظره مجرد قزم.
    الجملة التي تلفظ بها أبي، كان لها وقع مؤثر علي استغربت له، وأصبحت كنت كلما خرجت من البيت، أشعر وأنا أمشي بين الناس مجرد قزم، وأن كل من في المدينة أقزام مثلي ، خاصة وأن مدينتي ليس لها ممثل برلماني وبالتالي فأنا أعيش في مدينة الأقزام.
    هل تعتبر نفسك برلمانيا أيها القزم. ظلت جملة أبي، ترافقني حتى بعد وفاته. لم يعش أبي ليراني أنال شهادة الدكتوراه في القانون. لأصبح بعدها أستاذا جامعيا. تزوجت من فتاة تشتغل في سلك المحاماة والدها ميسور جدا. طلب مني أن أنتسب إلى الحزب الذي ينتمي إليه، وشجعني بعد سنين قليلة على خوض غمار الانتخابات البرلمانية. دعمني ماديا، ووظف علاقته التي راكمها منذ عقود في صفوف حزبه لجعلي أفوز . وبالفعل فزت ، ونلت مقعد برلماني .
    تذكرت مقولة والدي،. تمنيت لو كان حاضرا معي لحظة الإعلان عن فوزي، ليراني وقد غادرت قطيع الأقزام حسب تصوره، والتحقت بعالم الكبار. ولكي أكون صادقا مع القارئ، شعرت فعلا وأنا أفوز بمقعد برلماني، بأنني ازددت طولا. كم ستمتر أضفت إلى قامتي بعد هذا الفوز المبهر لا أعلم. وتأكد لي ذلك الإحساس ، حين كنت أستقبل أنا وصهري جمهور غفير من الزوار، جاؤوا إلى بيته الفخم للتهنئة. بدوا لي جميعا أقزاما، باستثناء، الذين نجحوا مثلي في الانتخابات، أو الذين كاوا وزراء و برلمانيين سابقين.
    هل وقعت في فخ أبي ، و صرت أنا نفسي ضحية نرجسية وغرور، وبدأت أعتبر نفسي رجلا كاملا، ولم أعد قزما كما كان ينعتني أبي . حاولت أن أطرد هكذا أفكار من دماغي. لكن الأمر تأكد لي في أول لقاء تم مع الكاتب الأول للحزب والمرشحين الذين فازوا في الانتخابات. هنأنا الكاتب الأول، وقال في كلمة خاصة بالمناسبة، أننا أصبحنا كبار الأمة، وإلينا تعود مهمة الدفاع عن مصالح المواطنين الذين منحونا أصواتهم. أوصانا ان نحرص على أن نكون في صفوف الأغلبية ، لأن المعارضة بالنسبة له ما هي سوى سنوات استراحة ليس إلا.
    بعد مدة قصيرة تشكلت الحكومة، وعين رئيسها. أجريت الانتخابات داخل قبة البرلمان ، وانتخب الرئيس . لن أنسى اليوم الذي حضرت فيه لأول جلسة مساءلة. دخلت رفقة باقي البرلمانين. أخذت مكاني بين زملائي وزميلاتي . كنت حقا في تلك الحظة، أشعر بأنني رجل كامل . عملاق ربما. فأنا أجلس رفقة رجال ونساء ، لهم القول الفصل في المستقبل الساسي للبلاد.
    لم تدم فرحتي طويلا، فعندما دخل رئيس المجلس، رفقة نوابه، لاحظت أنهم كانوا أطول منا جميعا. شعرت أنني تحولت إلى قزم. التفت يمينا ويسارا ، لاحظت أن كل زملائي أصبحوا اقزاما مثلي.
    صعد الرئيس إلى المنصة هو ونوابه. جلس كل واحد منهم في المكان المخصص له . ساد الصمت . فجأة سمعت صوتا ساخرا، لم أشك لحظة أنه صوت أبي يقول:
    -كنت مخطئا ، ظنت أن البرلمانيين ليسوا أقزاما، وحين أصبح ابني واحدا منهم ، تبين لي العكس.
    -عزيز أمعي
يعمل...
X